الناخب العراقي ليس مجرّد فرد يشارك في استحقاق انتخابي، بل هو شخصية درامية بامتياز، تستحق أن تُدرّس في كتب علم النفس أكثر من كليات السياسة. كل أربع سنوات، يعيش حالة من الأمل المتجدد، وكأن ذاكرته تُمسح تلقائيًا بعد كل خيبة. يذهب إلى الانتخابات كما يذهب العاشق المخدوع إلى لقاء جديد، يقنع نفسه أن الخيانة الماضية كانت "سوء فهم"، وأن الحبيب تغيّر، وأن الوعود هذه المرة ستكون صادقة.
ومنذ أكثر من عشرين عامًا، ظلّ هذا الناخب يتأرجح بين الحلم واليأس، مثل بندول ساعة لا تتحرك. يضع صوته في الصندوق، لا كفعل سياسي واعٍ، بل كمن يرمي رسالة حب في البحر، على أمل أن تصل — مع أنه يعلم جيدًا أن الرسالة ستعود إلى جيب نفس اللصوص، وتُقرأ بنفس الأسلوب الساخر.
الانتخابات، بالنسبة له، ليست وسيلة تغيير بقدر ما هي طقس جماعي، احتفال مؤقت، أشبه بوميض الكهرباء الوطنية: تضيء لحظة، فيفرح الناس، ثم تنقطع ليعودوا إلى الظلام المعتاد. ومع كل دورة، يشارك الناخب في "العُرس الديمقراطي" وهو يعرف أن العريس نفسه هو من سرق المهر وكتب عقد الزواج بالنيابة عن الجميع.
ومع ذلك، يذهب إلى التصويت، لا لأنّه يؤمن حقًا بالتغيير، بل لأنه لا يريد أن يشعر بأنه خرج من اللعبة تمامًا. يشارك ليبقى على الأقل "جزءًا من الكوميديا"، أو لعلّه يلتقط لنفسه صورة بإصبعه البنفسجي ليقنع نفسه بأنه ما زال مواطنًا فاعلًا.
المشهد يوم الانتخابات يكاد يكون لوحة سريالية: شيخ يتكئ على عصاه، يحلم أن صوته سيجلب مستشفى للحي. شاب عاطل، يعرف أن صوته لن يجلب له حتى فرصة عمل مؤقتة. امرأة ترفع إصبعها البنفسجي بفخر، وكأنها نالت جائزة نوبل. أطفال يركضون خلف الملصقات كأنهم يجمعون بقايا حلم مهترئ.
لكن الكارثة لا تقف عند صناديق الاقتراع، بل تتعدّاها إلى النفوس. فالصوت الانتخابي لم يعد رمزًا لكرامة المواطن، بل سلعة في سوق الخردة. يُباع بكيلوغرامات من السكر، أو ورقة نقدية تُخبّأ في الجيب، أو حتى مبردة هواء توضع في غرفة الضيوف لتذكّر العائلة بـ"فضل" المرشح.
الناخب، لا المرشح، هو من بات يُسعَّر، لا حسب وعيه، بل حسب سعره: ناخب ذهبي، وآخر فضي، وثالث ماسي. من شيخ عشيرة تُزار داره قبل الجميع، إلى موظف بسيط يُشترى صوته بـ"معاملة مؤجلة" أو وعد بتعيين قريب.
أما الوعود، فهي مسرحية لا تنتهي: يقول المرشح "سنحارب الفساد"، فيتضخّم الفساد حتى يلبس بدلة رسمية ويجلس في البرلمان. يقول "سنخدم المواطن"، فيكتشف المواطن أن "الخدمة" الوحيدة التي حصل عليها كانت صورة سيلفي يوم التصويت.
وفي النهاية، يعود الناخب إلى بيته، يضع رأسه على الوسادة، ويقول لنفسه: "ربما في الدورة القادمة..." ثم يضحك، كما يضحك العراقي دائمًا على مأساته، ويكمل نومه في عتمة بلا كهرباء.
إنه لا يتعلم الدرس، أو لعل الدرس نفسه تحوّل إلى جزء من لعنة تاريخية لا فكاك منها. ففي كل مرة، يُعاد إنتاج المسرحية نفسها، بنفس الأبطال، وبنفس الجمهور، مع تصفيق في البداية، وصفعة في النهاية.
باختصار: الناخب العراقي هو أعظم ممثل في مسرحية العبث السياسي. يؤدي دور "المؤمن بالتغيير" بكل صدق، مع أنه يعرف تمامًا أن النص قد كُتب منذ زمن، وأن الستارة لن تُسدل أبدًا.


