في كل موسم انتخابي، يخرج علينا العراق بعجائب السياسة ومخلوقاتها المتكررة: الوجوه المدورة. وجوه لا زوايا لها، لا ملامح حادة، لا موقف، ولا حتى ظلّ لرؤية. مجرد ابتسامات باهتة، عالقة على لافتات تغطي الشوارع كما يغطي الغبار وجه المدينة، وبذات الكلمات المستهلكة التي فقدت معناها منذ زمن طويل.
الوجوه المدورة هم أولئك السياسيون الذين لا يسقطون أبدًا، لأنهم في الحقيقة لا يصعدون. يتدحرجون بين المناصب كما تتدحرج الكرة في ملعب مغلق. اليوم نائب، غدًا وزير، بعد غد مستشار، ثم مرشح مجددًا. كل فشل هو فرصة جديدة في هذا الوطن الغارق في "إعادة التدوير السياسي".
في بلدان أخرى، الفشل يُحاسب عليه السياسي، ويُقصى من المشهد. أما في العراق، فالفشل يُكافأ بترقية، ويُروَّج له بعبارات مثل: "لديه خبرة"، أو "صاحب تجربة طويلة". لم يسأل أحد: طويلة في ماذا؟ في الوعود؟ في خيبة الأمل؟ في خيانة الناخب؟
هؤلاء يعودون كل مرة بنفس البدلة الرمادية، نفس الحركة الكاريكاتيرية برفع اليد، ونفس البرنامج الانتخابي المعاد طباعته منذ 2005: "محاربة الفساد"، "تحسين الخدمات"، "توفير فرص العمل". لكن ما يحدث على أرض الواقع هو العكس تمامًا: الخدمات تزداد سوءًا، البطالة تزداد اتساعًا، والفساد أصبح مؤسسة قائمة بذاتها.
ورغم كل ذلك، يعود الناخب لانتخابهم. لماذا؟ لأن الذاكرة السياسية في العراق مثقوبة. ولأن ثقافة "المعروف خير من المجرب" ما زالت تحكم المزاج الشعبي. الوجه المألوف، حتى لو كان فاشلًا، يبعث نوعًا من الطمأنينة الزائفة: نعرفه، ونعرف كيف يفشل، وهذا أهون من مغامرة جديدة قد تُفشل بأسلوب مختلف!
المرشحون يشبهون إعلانات المعجون في التلفاز: نفس الابتسامات، لكن بنكهات مختلفة كل أربع سنوات. أما رؤساء الأحزاب فهم كائنات محصّنة ضد التداول السلمي للسلطة. منذ 2003 تغيّر كل شيء: الطقس، الحكومات، حتى الطماطم… إلا هم. ثابتون، كأنهم بند في الدستور.
أما رؤساء الأحزاب، فهم قصة أخرى. ثابتون في مواقعهم منذ عام 2003، لم يتغيروا، ولم يعتزلوا، ولم يُزاحوا، وكأن كراسيهم جزء من أثاث الوطن الدائم. يطالبون بتداول السلطة، لكنهم لا يغادرون مواقعهم حتى بـ"الونش". يديرون أحزابهم كما تُدار الشركات العائلية: الأب رئيسًا، والابن في الشؤون المالية، وابن العم في الإعلام.
عزيزي الناخب، حين ترى وجهًا مدورًا على اللافتات، تحته عبارة "صوتك أمانة"، تذكّر أن الأمانة ضاعت في أول جلسة برلمان. تذكّر أن الوجوه لا تبتسم لك، بل تضحك عليك. وأنك حين تضع إصبعك البنفسجي، فقد تكون منحت صوتك لنفس الفشل، لكن في عبوة جديدة.
وهكذا، تبقى الديمقراطية عندنا مسرحية تُعرض كل أربع سنوات، بنفس الممثلين، ونفس النص، وجمهور يُطلب منه أن يصفق دومًا، ويُنسى بعد أن يُطفأ الضوء. أما الوجوه المدورة، فتبقى في الواجهة، لأن لا أحد يملك الجرأة ليكسر هذا "الدوران المزمن".


