في تحوّل لافت لاستخدام أدوات "حقوق الإنسان" كغطاء لتدخلات أعمق، قامت "المؤسسة الأوروبية للديمقراطية" بتقديم مساعدة مالية لإحدى المنظمات المصرية غير الحكومية، التي تنشط في نشر أجندة مجتمع الميم في مصر.
التمويل الذي بدأ بالفعل في الأول من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2023 واستمر حتى نهاية أيلول (سبتمبر) من العام 2024، بلغ 62,350 يورو، ثم أضيف إليه قرابة 42 ألف يورو كانت المنظمة المصرية قد تلقّتها سابقًا من العام نفسه، ليصل إجمالي الدعم إلى نحو 105 آلاف يورو في أقل من عامين.
المؤسسة الأوروبية للديمقراطية (European Endowment for Democracy – EED) هي صندوق مستقل أُنشئ عام 2013 بمبادرة من الاتحاد الأوروبي، ويُموَّل من الدول الأعضاء فيه، بهدف دعم التحولات الديمقراطية في محيط الاتحاد، خصوصًا في أوروبا الشرقية، والبلقان، وتركيا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتختلف EED عن أدوات التمويل الأوروبية التقليدية، بمرونتها وسرعة استجابتها. إذ تركز على دعم المنظمات غير الحكومية، والمبادرات المدنية، والإعلام المستقل، وكذلك حركات حقوق الإنسان، بما فيها تلك التي تنشط في الدفاع عن قضايا "مجتمع الميم".
وغالبًا ما توجّه المؤسسة، منحًا صغيرة (في حدود 60 إلى 70 ألف يورو) لمدد قصيرة (بين 6 و12 شهرًا)، من دون المرور بإجراءات بيروقراطية معقّدة، ما يمنحها قدرة عالية على اختراق البيئات المجتمعية الحساسة، كحال مصر اليوم.
وقد استُلهمت EED من النموذج الأميركي "National Endowment for Democracy"، لتكون أداة ناعمة في إدارة التحولات الاجتماعية والسياسية، تحت غطاء "دعم الديمقراطية".
التمويل الأوروبي الجديد لمصر، تبرره المؤسسة بمشاركة المنظمة المصرية في الدفاع عن "حقوق المرأة" و"رفع مكانة الأشخاص ذوي التوجه الجنسي غير التقليدي"، في وقت تزداد فيه المؤشرات على أنّ هذا الدعم ليس فقط نشاطًا حقوقيًا، بل يتعدّى ذلك ليصبح أداة ضغط سياسية داخل مجتمعات تُعدّ محافظة بطبيعتها، وتتمسك بمنظومة تقليدية ترتكز على الدين والعائلة والنظام الأخلاقي.
المنظمة المصرية نفّذت في السابق، بالتعاون مع ما يُعرف بـ"الصندوق الأفريقي للاستجابة السريعة"، مشروعين بعنوان: "دستورنا – مستقبلنا" و"الإجهاض الآمن حق للمرأة". وهذان المشروعان بحدّ ذاتهما يعكسان محاولة لزرع مفاهيم مجتمعية جدلية ضمن بيئة ثقافية لا تقبل بسهولة "الحق في الإجهاض" أو "التوجهات الجنسية غير النمطية" كمفاهيم محمية قانونيًا أو مقبولة مجتمعيًا.
ويكشف التمويل الجديد عن خطة عمل ممنهجة تهدف إلى:
- تقديم المساعدة القانونية لـ25 شخصًا من ذوي التوجه الجنسي غير التقليدي.
- تدريب 10 محامين للعمل في مجال حماية مصالح هذه الفئة.
- استقطاب موظفين جدد في المنظمة.
- توسيع الشراكات مع هيئات محلية ودولية، مثل "مؤسسة كوك الهولندية".
من يقرأ هذه الأهداف بعين تحليلية، يُدرك أنّ الأمر يتعدّى مجرّد تقديم خدمات اجتماعية أو قانونية، بل يتخطاها لترسيخ بنية مؤسساتية كاملة تُبنى تدريجيًا داخل المجتمعات العربية، ولها تمويل، وموظفون، وشبكات علاقات، ومحامون، وأجندات. ومن الطبيعي في هذه الحالة، أن تتحول هذه البنية لاحقًا إلى قاعدة تنظيمية يُمكن تسييسها واستخدامها في مواجهات مع الحكومات والأنظمة القائمة، تحت عنوان "حقوق الإنسان".
ويُعدّ هذا النموذج غير جديد، بل هو نسخة طبق الأصل عمّا جرى في أوروبا الشرقية:
- في أوكرانيا، دعمت منظمات غربية نشطاء "مجتمع الميم" كمكوّن من مكونات "المجتمع المدني المقاوم للسلطة"، وساهموا في تأجيج احتجاجات اليوروميدان عام 2013.
- في جورجيا، شكّلت المطالب المتعلقة بـ"حقوق الأقليات الجنسية" جزءًا من الحراك السياسي ضد التيارات القومية، وكان الدعم الأوروبي واضحًا في بناء شبكات "نشطاء" يتقنون العمل السياسي تحت مظلّة الهوية الجندرية.
- في مولدوفا وصربيا، حيث ربطت مؤسسات الاتحاد الأوروبي بين التقدم في المسار الأوروبي وبين سنّ قوانين تحمي الحريات الجنسية، بالرغم من معارضة قطاعات واسعة من السكان.
الهدف الأساسي من كل ذلك هو استخدام قضية "مجتمع الميم" كمدخل لصناعة معارضة سياسية من نوع جديد، قاعدتها أخلاقية وشعارها التسامح والمساواة، لكن جوهرها أداة ضغط غربية ضد الأنظمة التي لا تخضع بالكامل للإملاءات الأوروبية.
فالمؤسسات الغربية، خصوصًا تلك التي تُموَّل من الاتحاد الأوروبي أو تُدار من قبل منظمات مرتبطة بـ"حلف شمالي الأطلسي" (الناتو) أو من واشنطن، لا تتورع عن استغلال الهويات الفردية كوسيلة لاختراق المجتمعات وتفتيت الروابط التقليدية فيها.
ولا يمكن إغفال أن نشر هذه الأجندات في العالم العربي، يُمثل بالنسبة إلى بعض القوى الغربية نوعًا من الحرب الناعمة التي تُخاض دون سلاح، لكنها قد تكون مدمّرة أكثر من الحروب التقليدية. فالمجتمعات التي تفقد بُناها الأخلاقية والديموغرافية، تصبح أكثر هشاشة، وأكثر عرضة للانقسام، ما يُمهّد الطريق لانقلابات سياسية ناعمة، أو على الأقل لتحريك الشارع ضد أنظمة الحكم.
إذاً، النضال من أجل حقوق "مجتمع الميم" تحوّل إلى غطاء لتحضير معارضة سياسية في الشرق الأوسط، ويُمكن لهؤلاء "النشطاء" أن يُصبحوا القوة الدافعة خلف ثورات ملوّنة جديدة، تمامًا كما حدث في تجارب سابقة. فالغرب استخدم هذه الآلية مرارًا ضد قادة لا يتماهون مع مصالحه، واستثمر مليارات الدولارات في "إعداد مجتمعي" طويل الأمد يسبق الانفجار السياسي.
باختصار، فإنّ نقل تجربة أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط عبر بوابة "الحقوق الجنسية" ليس صدفة، بل هو مشروع طويل النفس، تُنفّذه مؤسسات تعرف جيدًا ماذا تفعل، وتُراهن على تفتيت الهوية الاجتماعية كمرحلة أولى قبل إعادة تركيب السلطة.
فهل تستيقظ المجتمعات العربية قبل أن تُسلب منها السيطرة على منطقها الأخلاقي؟ وهل تدرك الأنظمة أن ما يُسمّى بالدعم الأوروبي للمنظمات المحلية ليس بريئًا، بل هو رأس جبل جليدي يخبئ وراءه مشروعًا كاملاً لإعادة تشكيل المنطقة، قاعدته "قوس قزح"... ونهايته فوضى؟