في خطوة تُعَدّ من أبرز معالم التحوّل التعليمي في المملكة، أعلن المركز الوطني لتطوير المناهج، بالتعاون مع وزارة التعليم، ووزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، عن إطلاق منهج متكامل للذكاء الاصطناعي، يُطبَّق على جميع مراحل التعليم العام، ابتداءً من العام الدراسي 2025 – 2026. وتأتي هذه المبادرة في ظل التوجّه الوطني نحو الاقتصاد الرقمي، وتأكيدًا على مكانة المملكة كمحور إقليمي في مجالات التقنية والابتكار.
وبعد إعلان إدراج هذا المنهج، يبرز تساؤل مهم: ماذا عن تدريس الفلسفة في جامعات السعودية؟ نأمل أن يُواكب هذا التطور مراجعة شاملة لأقسام الكليات الجامعية، بل إن الضرورة تقتضي إنشاء كليات جديدة تُلبّي الاحتياج الفعلي لسوق العمل، وتُسهم في بناء العقل والمجتمع معًا، مثل كلية لعلوم الفلسفة، وكلية للموسيقى والفنون، وأخرى للتقنيات الحديثة؛ عوضًا عن الاستمرار في تخريج أفواج من تخصصات تراجع الطلب عليها، أو تجاوزها الزمن، فالحصول على شهادة في الفلسفة، على سبيل المثال، يُمكِّن الخريجين من تدريس المادة في التعليم العام، ويُسهم في تعزيز التفكير النقدي وبناء الإنسان الواعي.
فالفلسفة والمنطق ليسا ترفًا معرفيًا، بل ضرورة حيوية؛ إذ هما غذاء العقل، وروح الفكر الحر، وبهما تستنير العقول، ويُصقَل الوعي، ويُبنى الإنسان القادر على التمييز والتفكير. وفي أروقة الفلسفة تتجلّى فضيلة التسامح، ويتهدّم جدار الانحياز، ويُكتسَب من دراستها رقيّ الخطاب، وسموّ الثقافة، وفصاحة التعبير، وبلاغة الحِجاج. الفلسفة لا تُعلِّم الإنسان ماذا يفكّر، بل كيف يفكّر، وفي هذا الحقل الفلسفي بين التعليم والثقافة يكمن التوازن الحق بين تعليم الأفكار وتعليم التفكير؛ فإدخال الفلسفة والمنطق إلى المناهج هو استثمار في بناء الإنسان وصناعة العقول القادرة على النقد، والإبداع، والتمييز. ومن دون ذلك، نظل نُخرّج أجيالًا تحفظ ولا تفهم، تُكرّر ولا تُبدع، وتُقلّد دون أن تجرؤ على أن تسأل: لماذا؟
وفي سياق هذا الموضوع، لا يمكن إغفال الدور الفعّال الذي تضطلع به جمعية الفلسفة السعودية، وقبلها حلقة الرياض الفلسفية، من جهود وبرامج أسهمت في نشر الفكر الفلسفي، وإشراك المجتمع الثقافي فيه. تمثّل جمعية الفلسفة السعودية نقلة نوعية في المشهد الثقافي الوطني، فهي لا تكتفي بإحياء الفلسفة كأداة للتفكير، بل تحرص على توظيفها في ميادين التربية والمجتمع، وتسعى إلى تأصيلها كممارسة تفاعلية وشراكية. ويجعل تنوّع برامجها، من البحوث والمنح إلى تمكين مهارات القراءة والكتابة الفلسفية، والحوار المجتمعي، منها بوصلة فكرية حديثة تصقل الوعي، وتعزّز ثقافة التأمل والنقد، وتُسهم في تشكيل فكر حرٍّ ومتّزن.
وفي الختام، فإنَّ إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج التعليم العام لا يُعدّ مجرّد تحديث للمحتوى الأكاديمي، بل هو استثمار في عقول الأجيال القادمة، وتأهيل لهم للاندماج الفاعل في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيير التكنولوجي. وبهذه الخطوة الطموحة، تضع المملكة الأساس لتعليم وطني ذكي، يراهن على الإبداع والابتكار، ويواكب مستهدفات رؤية 2030 في بناء اقتصاد معرفيّ رائد. وإذا كان الذكاء الاصطناعي هو عقل المستقبل، فإن الفلسفة هي روحه؛ ولا يكتمل البناء إلا باجتماعهما. من هنا، نأمل أن يتزامن هذا التحوّل التعليمي مع إدراج الفلسفة في التعليم الجامعي، بوصفها أداة لصقل التفكير النقدي، وتعميق الوعي الحضاري، وصناعة الإنسان الذي يُفكّر قبل أن يُقرر.