بعد مُضي أقلّ من 72 ساعة تقريباً على خطاب الرئيس التركي رجب أردوغان في 12 تموز (يوليو)، اشتعلت محافظة السويداء السورية أمنياً. الإسرائيليون استخدموا الضربات الجوية ضد دمشق كردٍّ بليغ. أما شيخ العقل الدرزي حكمت الهجري والميليشيات التي تحت إمرته فقد عملوا كساعي بريد لتوصيل الرد، على اعتبار أن تل أبيب حذّرت في وقتٍ سابق ولعدّة مرّات بأن تواجد السلاح الرسمي للنظام السوري الجديد يعتبر خطاً أحمر لأمنها القومي.
حقيبة التفسيرات الأولية
استخدامُ مقص القومية العربية المصنوع من تفسير خطاب أنقرة وضربات تل أبيب، ضروري لتشذيب شارب السويداء وذقن دمشق. التحليل الأولي لخطاب أردوغان، وبالرغم من الاحتفاء بإلقاء حزب العمال الكردستاني لسلاحه، يذهب إلى أنه كان إعلاناً عن العودة إلى زمن الولايات العثمانية. أما الضربات الجوية الإسرائيلية فهي إشعار بالصوت والصورة لأنقرة بأنها باتت تلعب بوزنٍ مماثل تقريباً للأخيرة في الجغرافيا السورية.
زميلي السوري باسل المحمد، أضاف أذربيجان إلى حقيبة تفسيري: "تتزامن الضربات مع فشل أو تعثّر قنوات التواصل غير المباشر بين إسرائيل والحكومة السورية الجديدة، والتي جرت مؤخراً في باكو". النتيجة التي خلص إليها المحمد لما قامت به تل أبيب: "فرض وقائع ميدانية قبل أي تفاهم محتمل حول مستقبل الجنوب السوري".
هدف إسرائيل الأول الذي تُخفيه في شباك السويداء هو إبعاد مرتفعات الجولان عن طاولة مفاوضاتها مع دمشق، بالتهديد بابتلاع المزيد من الجغرافيا السورية بواسطة الهجري. قوات "قسد" بدورها ستجد في تقليص حضور دمشق في السويداء، فرصة لتخفيف ضغوط التزامها بالاندماج في المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية لسوريا.
مزايا سورية
الجغرافيا السورية تمتلك "القوة التعديلية". تعريفُها وباختصارٍ عملي بأن من يحقّق إنشاً من النفوذ على جغرافيتها سيمتلك أميالاً من النفوذ على جيرانها وبالتالي تغيير توازنات القوى في المنطقة. لهذا كانت دمشق في تاريخها الحديث على أقلّ تقدير ساحة لـ"حربٍ عربية باردة" على حدّ تعبير كيرتس رايان. حافظ الأسد الرئيس السوري الأسبق نجح في تجميع هذه القوّة التعديلية، وتوظيفها إقليمياً ودولياً.
الميزة الأخرى في جغرافيا سوريا بأنها وطنٌ لما سأصفها بـ"الأقليات المفيدة" ومن أهمها المكوّنات الدرزية والكردية الأصيلة. الأقليات المفيدة هي تلك التي تنتشر في المناطق الحدودية، وتكون معرّضة دائماً للاختبارات الجيوسياسية من قبل الدول العظمى، ومن الدول الإقليمية الوازنة في فترات الفراغ السياسي للدول التي تنتشر فيها تلك الأقليات.
السوريون الأكراد توجَدوا في جغرافيا سورية حساسة – شمال وشمال شرق – لأنقرة بشكلٍ أساس والتي عملت على تقييدهم سياسياً وعسكرياً خلال العقود الماضية بالتعاون مع دمشق. أما السوريون الدروز في السويداء فهم يقطنون في منطقة هدنة إذا صحّت اللفظة بين دمشق وتل أبيب، حيث حرصت العاصمتان على عدم خسارتهم لبعضهما الآخر. ولا ننسى السوريين العلويين في غرب سوريا الذين كانوا لأكثر من خمسة عقود في أعلى هرم السُلطة، وأهمية مناطقهم في توازنات شرق المتوسط.
نحن هنا لسنا دائرة نفوسٍ مدنية توزّع صكوك الانتماء الوطني على هذه المكوّنات السورية، فمن أصل 132 دولة في العالم لا توجد سوى 12 دولة متجانسة عرقياً، وحتى ذلك التجانس نسبي لا مُطلق. ما ذكرناه هنا يُريد استعراض الحيرة الأمنية والجيوسياسية لدمشق مع أقليّاتها المُفيدة في تاريخها المُعاصر.
السلام الإبراهيمي والنظام الإقليمي
نلتفت هنا أيضاً إلى السلام الإبراهيمي الذي يستهدف عموماً الأقليات النشطة سياسياً في المنطقة العربية باسم الأديان، كقلاع نفوذ مسلّحة ضد جميع الخصوم الجيوسياسيين. هذا السلام لا يعدو كونه سوى وصفٍ جذّاب للنسخة الأصلية من خطط الحكومة الإسرائيلية المعروفة بـ"رابطة القرى"؛ أي التفتيت وربط المُجزّأ بإسرائيل.
لا أتحدّث هنا عن نسخة ثانية من اتفاقية سايكس بيكو بخصوص الحدود في المنطقة. توم برّاك المبعوث الأميركي إلى سوريا كان صادقاً في ذلك من ناحية الجغرافيا. ما لم يقله برّاك بأنَّ هذه الاتفاقية ذات الطابع "الاستيطاني" بحسب وصف الفرنسي تييري دي مونتبريال، ستلجأ إلى إعادة ترسيم الحدود بالأقليات المفيدة في المنطقة؛ أي لا حدود تتغيّر وإنما تسفير الانتماءات من الوطن إلى تل أبيب.
واشنطن وتل أبيب ليستا خارقتين لتتمكنا من فعل ذلك، ولا لأنَّ تلك المكوّنات الوطنية غافلة. السبب هو أنَّ العلاقات بين واشنطن وموسكو في عهدها السوفييتي تستند بحسب هانز جي. مورغنثاو إلى "الخط العسكري الفاصل الذي تم الاتفاق عليه في عام 1945، والذي اعترف الفريقان بوقتيته" ذو العلاقة بالنظام الإقليمي. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبح هذا الخط ملكاً لواشنطن وبالتالي مزرعة لتل أبيب.
الأميركيون براغماتيون والإسرائيليون بائعون شاطرون. حرصت تل أبيب دائماً على ابتداع نفسها كموظف للولايات المتحدة في المنطقة. بعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة في أيار (مايو) الماضي، والتي دشّنت أهمية التحالفات الاقتصادية لواشنطن من بين أمورٍ أخرى وردت في مقالي السابق "ربيع الرياض العربي جيواستراتيجي بامتياز"، شعرت إسرائيل بالرعب من الهوس الاقتصادي (Economic Mania) الأميركي في القرن الحادي والعشرين، الشبيه بهوسها في عقد المعاهدات السياسية الـ"Pactomania" في خمسينيات القرن الماضي، على يد جون فوستر دالاس وزير خارجيتها آنذاك. تل أبيب منذ القرن السابق وحتى وقتنا الحالي تجتهد في اغتيال أية فرص حقيقية للتحالف المثمر بين العرب، واشنطن وبروكسل. السلام الإبراهيمي يعني إطلاق رصاصة سحرية على قلب هذه الفرص.
الرئيس ترامب وبحسب أدائه السياسي وضع المنطقة العربية على "نظام الطيران الأوتوماتيكي" بحسب وصف الدبلوماسي البريطاني جوناثان كلارك، والذي استخدمه قبل أكثر من ثلاثة عقود لإجمال سياسة بيل كلينتون الرئيس الأميركي الأسبق في المنطقة.
الأنظمة العربية مدركة للتحديات، لكنها وبسبب الصراع البيني بينها على النفوذ لم تُصمّم لحد الآن نظاماً بديلاً عن السلام الإبراهيمي. أمَّا إسرائيل فهي تُريد أيضاً إخفاء فلسطين تحت يافطة هذا السلام واستمرار الشخير الطائفي للعرب قبل أن يصحوا ويجدوا دولهم كيبوتسات إسرائيلية أو قواعد للجهاد الإنجيلي لتحرير مناطق الأقليات المفيدة في دولهم، وهذا قد حصل في العراق وسوريا بحجّة دحر داعش؛ أي ليس خيالاً مفيداً لي لتدبيج الخاتمة.