تعيش إيران هذه الأيام إحدى أكثر مراحلها توتراً وانفجاراً من الداخل، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، واتساع فجوة الفقر، وارتفاع منسوب الغضب الشعبي بشكل ملموس. الشارع الإيراني يغلي على وقع القمع والاضطهاد والنهب، في وقت تتكثف فيه الضغوط الدولية على نظام الملالي بسبب سياساته النووية والتوسعية، وكذلك ملف حقوق الإنسان المتدهور بشكل مأساوي.
ردّ النظام على هذه التحديات لم يكن بالإصلاح أو التهدئة، بل بالتصعيد: تصاعد غير مسبوق في تنفيذ أحكام الإعدام، مئات المعتقلين في كل أنحاء البلاد، وتشديد الخناق على الأسرى السياسيين. في الربع الأول من عام، أعدم النظام أكثر من 400 شخص، فيما تجاوز عدد الإعدامات منذ تسلم بزشكيان الرئيس الحالي الذي كان يُدعى يوماً بأنه إصلاحي ومعتدل! أكثر من 1400 حالة.
ما يثير القلق أكثر هو تنوع الشرائح المستهدفة. هناك خمس نساء ضمن المعدومين، بالإضافة إلى معتقلين من القوميات. كما أن عدداً من السجناء السياسيين من أنصار منظمة مجاهدي خلق كانوا هدفاً مباشراً للمضايقات والنقل القسري والضرب الوحشي، مثل معصومة صنوبري، بيجن كاظمي، آذر كوروندي، ومحمد أكبر منفرد حسب بيان المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية.
وفي موازاة ذلك، أطلق النظام حملة اعتقالات عشوائية واسعة. وكالة فارس التابعة للحرس الثوري تحدّثت عن اعتقال أكثر من 700 شخص بتهم "تجسسية". النيابة العامة في كرمانشاه أكدت اعتقال 115 شخصاً. وشرطتا أصفهان وفارس أعلنتا عن توقيف عشرات آخرين بسبب ما سموه "تشويش الأذهان" و"التحريض ضد النظام". بينما تشير تقارير منظمات الدولية لحقوق الإنسان إلى أن عدد المعتقلين تجاوز الألف في أقل من أسبوعين.
هذه الهجمة ليست فقط دليلاً على شراسة النظام، بل تعكس ذعره العميق من الداخل. ذلك أن هذا التصعيد الوحشي لم يُجدِ في ترهيب المجتمع، بل على العكس، أجّج مشاعر الغضب والتحدي، وزاد من نشاط المقاومة ووحدات الانتفاضة. وفي الوقت الذي تسارع فيه الجهات الحقوقية الدولية، من مجلس حقوق الإنسان، إلى المفوضية السامية، والبرلمان الأوروبي، والعديد من البرلمانات والحكومات، في إدانة هذه الجرائم، يمعن النظام في تحدي الرأي العام العالمي، لأنه يعتبر أن التهديد الحقيقي لوجوده لا يأتي من الخارج... بل من داخل إيران.
لماذا الخطر الحقيقي على النظام ينبع من الداخل؟
بالرغم من كل الحديث عن العقوبات والضغوط والخيارات العسكرية، يعلم النظام جيداً أن الخطر الذي يهدد وجوده لا يتمثل في صراع خارجي، بل في البركان الداخلي المتصاعد. إن أكثر ما يخشاه خامنئي ليس الغرب، بل صوت الشعب المنتفض، وصرخة المرأة البلوشية في خاش، وحجارة أبناء همدان الغاضبين، وكتابات الشباب في أزقة طهران ومشهد وشيراز.
حادثة همدان، حيث أطلق الباسيج الرصاص على سيارة مدنية فقتلوا شابين هما مهدي عبائي وعلي رضا كرباسي، أشعلت جنازة تحولت إلى مظاهرة شعبية هتفت: «عدونا هنا وليس في أميركا». وفي خاش، اقتحمت قوات النظام قرية گونيچ فقتلت امرأة وأصابت عشر أخريات، لكن الرد جاء من نساء القرية اللواتي أوقفن الشوارع وأشعلن الإطارات ووقفن بوجه القتلة بصدور عارية.
هذه الصور تفضح حقيقة ميزان القوى. مع كل قمع، هناك مقاومة. مع كل إعدام، هناك رد. والأهم أن هذه الردود لم تعد عفوية ولا مشتتة، بل منظمة تقودها وحدات الانتفاضة، وهي شبكات شجاعة ومنظمة من الشباب المؤمنين بالحرية، الذين يضربون مواقع النظام في قلب المدن، ويحرقون رموز القمع، ويبعثون برسالة قوية: الشعب لن يستسلم.
وكما قال زعيم المقاومة الإيرانية مسعود رجوي: الخطر على النظام لا يأتي من واشنطن أو بروكسل، بل من كل زنزانة، من كل أم ثكلى، من كل شاب أُعدم أخوه، من كل حجر يُقذف على مقر الباسيج. هذه الحقيقة هي التي تدفع النظام إلى ارتكاب هذه المذابح اليومية، أملاً في كبح الاندلاع الكبير.
لكن هذا القمع اليومي، لم يعد يجلب له إلا مزيداً من الاحتقار العالمي، ومزيداً من العزلة، والأهم: مزيداً من الاقتراب من لحظة السقوط. فالرهان على القتل الجماعي لم يعد ينفع، والرهان على الصمت الدولي قد فشل، والرهان على الخوف الشعبي تحطّم.
لقد تكسّرت كل أوهامه، لأنّ الشعب الإيراني لم يعُد ينتظر من يحرّره، بل صار هو نفسه قوة التحرّر والانعتاق. وها هو يكتب فصول قدره بيده:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياةَ
فلا بدّ أن يستجيبَ القدر
إنَّ صوت الشعب الإيراني اليوم، وقد امتزج بدماء الشهداء وصمود السجناء، صار نداءً لا يردّه زمن ولا يسكتُه جلّاد. وما يزيد من رعب النظام أن هذا الصوت لم يَعُد فردياً ولا معزولاً، بل صار منظماً ومشتعلاً في شكل وحدات الانتفاضة، التي تُشعل الشرارة في كلّ حيّ ومدينة، وتُعلن أن عهد الخضوع قد ولّى، وأن لحظة الحسم تقترب بثبات.