في لحظةٍ دقيقة من التحوّل السوري، حيث تستعيد الدولة ملامحها بعد سقوط النظام السابق، وتتهيأ لإعادة التشكل خارج منطق الفوضى، لا تعود الطوائف مجرد مكونات اجتماعية، بل تتحول في نظر البعض إلى أدوات قابلة للتوظيف، أو مناطق نفوذ، أو جبهات مرنة لتوازنات الآخرين.
وبينما تفتح الجغرافيا السورية جروحها للتضميد والإستشفاء، تقف بعض الزعامات المحلية، ومنها بعض القيادات الدرزية، أمام سؤال معقّد: هل الحياد في زمن الفوضى موقف راشد؟ وهل التحالف مع العدو "بحجة" حماية الطائفة يُعَدّ براغماتية أم خيانة؟
ليست هذه أول مرة يُدفع فيها الدروز إلى تقاطع حاد بين البقاء والاستقلال، بين الانكفاء والتحالف، لكن الخطورة اليوم تكمن في طبيعة "الراعي" الذي يُستدعى للحماية. حين تتحوّل إسرائيل، التي ما تزال تحتل أرضًا سورية وتنتهك المجال السوري كلما شاءت، إلى جهة يُشار إليها ضمنيًا كضامن أو وسيط، فإننا أمام اختلال عميق في المعايير، لا يمكن تبريره بمخاوف الأقليات ولا حتى بحسابات الواقع.
إن الموقف من الدولة السورية شيء، والموقف من العدو الإسرائيلي شيء آخر تمامًا. والذاكرة الشعبية تفصل جيدًا بين من انتقد النظام من داخل مشروع الدولة، وبين من استنجد بالخارج لتفكيكها أو شرعنة غيابها. لا أحد يُلام على مطالب الإصلاح المُحقة، لكن من يلوذ بالمحتل الإسرائيلي تحت ذريعة الحماية يكتب نهايته السياسية بأقلام غيره.
والسؤال الأهم: على ماذا يراهن هؤلاء؟ الرهان على بقاء إسرائيل كقوة ضامنة هو رهان على لحظة لا على مسار، على تفوق زائل لا على شرعية دائمة. فإسرائيل لا تمنح عملاءها المحليين شراكة، بل وظيفة وغالبًا ما تتخلى عنهم عندما يتغير الظرف أو تنتفي الحاجة. ومن يربط مصيره بوجود قوة خارجية، يُقصي نفسه من أي معادلة وطنية لاحقة، بل يتحوّل إلى جزء من الأزمة لا من الحل.
وفي السياق العربي الأوسع، ما من تجربة لتحالف مع الاحتلال أنتجت كيانًا آمنًا أو مستقلاً. بل دائمًا ما كان الثمن هو النبذ الشعبي، والسقوط الأخلاقي، والاندثار التاريخي.
الطائفة التي تريد لنفسها مستقبلًا، لا تبحث عن حماية خارجية مع عدو تاريخي، بل عن اندماج وطني ضمن مشروع سيادي شامل. أما الاحتماء بالمحتل، فهو ليس فقط خطأً سياسيًا، بل انفصال عن منطق التاريخ، وعن أخلاقيات العيش المشترك.
في لحظات الفوضى، يبدو الخيار الرمادي مغريًا، لكن التاريخ لا يدوّن الحياد، بل يسجل المواقف الكبرى. ومن يختار إسرائيل شريكًا، يختار أن يكون خصمًا للمستقبل.