أخذت المعضلة اللبنانية أبعاداً جديدة بعد تحفظ «حزب الله» على الخطوات السياسيّة الكبيرة التي خَطَتْها الحكومة اللبنانية من خلال تأكيدها قرار حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية من دون سواها، ومن ثم من خلال إقرار ما ورد في الورقة الأميركيّة التي أرسلها المبعوث الرئاسي الأميركي توم برّاك إلى الجهات الرسمية بدءاً برئيس الجمهورية اللبنانية، مروراً برئيس المجلس النيابي، وصولاً إلى رئيس الحكومة.
وإذا كان الحزب قد عبّر بخفر وخجل عن رفضه تسليم سلاحه، فإنه تخلَّى عن هذا الخطاب، وسلك درب التصعيد والرفض العلني والمطلق والمباشر، ولم يتأخر عن تسيير «دورياته» من الدراجات النارية التي تلوّح بالأعلام الصفر في أنحاء العاصمة اللبنانية بيروت، في خطوة استفزازية لأهالي المدينة وسكانها، وصولاً إلى حرم مطار رفيق الحريري الدولي في سلوك غير مبرر أيضاً.
لا شك في أنَّ ما خبره الحزب وبيئته الاجتماعيّة خلال الأشهر المنصرمة فاق كل التقديرات وكل التوقعات، خصوصاً مع انهيار مقولة «توازن الردع»، وسقوط كل الشعارات التي رُفعت على مدى سنوات طوال، فجاءت ضربة أجهزة الاتصال (البيجرز) قاسية، بالإضافة إلى ضحايا هذه الضربة، وأثرت على المعنويات في الصميم، وأكدت أنَّ تلك القوة الجبّارة التي ظنّت نفسها، وظن معها الكثيرون، أنها غير قابلة للمس، قد تعرّضت لاهتزاز كبير وغير مسبوق.
وجاء اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وبعد يومين اغتيال خليفته هاشم صفي الدين، بمثابة ضربة أكثر قسوة. فنصر الله لم يكن فقط زعيم «حزب الله» اللبناني، بل امتد دوره إلى الإقليم برمته، وصولاً إلى طهران التي كانت تنظر إليه أنه ركن أساسي في «محور المقاومة والممانعة».
لقد شكّلت هذه الضربات، بالإضافة إلى الحرب الضروس التي دمرت خلالها إسرائيل ليس الكثير من مخازن الأسلحة فحسب، بل أيضاً الكثير من البيوت والوحدات السكنيّة، شكّلت صدمة لكل جمهور الحزب وبيئته الذي رأى كل ما بُني على مدى أربعين سنة يتلاشى في أقل من أربعين يوماً.
قد تكون مفهومة تحفظات الحزب وبيئته على تسليم السلاح، ولكنها ليست مبررة. فشعار مائة ألف صاروخ الذي فاخر به الحزب لسنوات لم يشفع له أو لبيئته أو للبنان عموماً خلال الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، فدمّر الجنوب والبقاع وأجزاء واسعة من الضاحية الجنوبية، ولم يحصل ردع لإسرائيل كما كان متوقعاً.
التحرير الذي حصل سنة 2000 وكان إنجازاً وطنياً مهماً نتيجة تراكم نضالي من العديد من الجهات وصولاً إلى المقاومة، وحصل من دون التوقيع على اتفاقية سلام، سقط من خلال استمرار إسرائيل في احتلالها النقاط الخمس، كما أن السيادة اللبنانية تُنتهك يومياً عبر الاستهداف المباشر لقرى أو مناطق أو أشخاص، ومن خلال المسيّرات التي تحلّق فوق العاصمة أو مناطق أخرى، وهذا ليس جديداً على إسرائيل.
واضحٌ أن احتفاظ «حزب الله» بسلاحه بات مسألة صعبة، خصوصاً مع التساقط التدريجي للدعم السياسي الذي كان يحظى به في السابق من الكثير من القوى السياسيّة اللبنانية التي راحت تتنصل منه الواحدة تلو الأخرى. وواضحٌ أن القرار الدولي الكبير، لا سيما الأميركي، لن يشهد تراخياً أو تراجعاً في الفترة المقبلة. والواضح أيضاً أن موازين القوى الجديدة في الشرق الأوسط لا بد أن تنعكس نفسها بشكل أو بآخر على المعادلة الداخلية اللبنانية.
لا يستطيع «حزب الله» إشاحة النظر عن كل ما جرى خلال الأشهر الماضية، وأن يستعيد الخطاب ذاته ويكرره كيفما اتفق، ولا يستطيع ألا يُجري قراءة دقيقة لكل المتغيرات وأن يكيّف موقفه على أساسها. باختصار، لا يفيد «حزب الله» تحويل الوضع القائم إلى مشكلة لبنانية - لبنانية؛ لأن ذلك يصب في مصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً.
كما لا تستطيع الدولة اللبنانية أن تترك جنوب لبنان وأهله في حالة من «العراء الأمني»، أي الانكشاف التام أمام ضربات إسرائيل وانتهاكاتها اليومية في الجو والبر والبحر، وألا تسعى حقاً لاستعادة الاستقرار إلى المنطقة بعد تأمين الانسحاب العسكري الإسرائيلي الكامل من النقاط التي لا تزال تحت الاحتلال في انتهاك فاضح للقرار «1701» ولاتفاقية وقف الأعمال العدائية التي تم التوصل إليها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.
بانتظار تبلور مقاربات جديدة، ومعطيات جديدة، وبالتالي نتائج جديدة، يبقى القلق مرافقاً المواطن اللبناني، كما كان دوماً.