إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول "أنا" حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما في بلد لا تتوافر فيه شروط: الدولة.
قبل أن أبلغ الخامسة عشرة، كنت أحمل وجوه الناس في قلبي وريشتي ومحبرتي. استنكرت موقف أب - جار - كان يضرب ابنه ظلمًا، وأنا بعد طفل صغير لم يحتك بالحياة إلا من نافذة أخلاقية فطرية. اتخذت موقفاً طفلياً صارماً من كل رجل يعتدي على زوجته، كل جار ينكّل بجاره. احتقرت صورة الشرطي/الجلاد، منطلقاً من تربية أسرتي في الموقف من الظلم. لم أكن أعرف نظريات الدفاع عن حقوق الإنسان، بل كنت أشعر أن العدل هو الهواء، وأن من يمنعه لا يجوز له أن ينام مطمئنًا.
في تلك المرحلة البعيدة القريبة حينما كنت طالبًا في الإعدادية ومن ثم أول الثانوية في مطلع السبعينيات، وكنت أراسل الصحف، لا أطلب مجدًا، بل أتبنّى مظالم الناس كما لو كانت واجبًا منزليًا. اعتبرت قضاياهم قضيتي، لا بوصفي ناشطًا، بل لأن المظلومية كانت تُطرق بابي، وأجد في الرفض صيغة للحياة. حيث كتبت مسرحيتي الأولى "الحق بين أشواك الموت" عام 1977 عن فلسطين، لم أكن أنقل بطولة، بل أستحضر موتًا يجب ألا يُنسى.
مواجهتي لنظام حافظ الأسد - وفق أدوات المرحلة كتابيًا - كانت أبكر من ذلك بكثير. في العام 1986، مُنع ديواني "للعشق للقبرات والمسافة" من التوزيع، بالرغم من موافقته الرسمية، وتشجيعه من قبل اتحاد الكتاب السوريين، وصودرت بعض نسخه محليًا، بالرغم من أنه لم يكن فيه ما يُعتبر خطرًا على الدولة. نُقلتُ لاحقًا تعسفيًا من وظيفتي من التعليم الثانوي إلى التعليم الابتدائي إلى مكتب محو الأمية إلى وزارة الزراعة، لا لأنني خرقت قانونًا، بل لأن كلمتي لم تُجبن. لم أُثبّت في مسابقات انتقاء المدرسين، وراتبي بقي أقل بكثير من رواتب من تخرجوا معي، إلى أن غادرت عالم الوظيفة. ومع ذلك، لم أتنازل. فقد كتبتُ بما هو ممكن في كل مرحلة.
وحين أطلق بشار الأسد حملته على "إعلان دمشق" أواخر 2007، لم أكن عضوًا في السجلات، ولا مُلحقًا باللجان، ومع ذلك كتبت: "أتقدم بعضويتي إلى إعلان دمشق عبر طلب انتساب افتراضي رمزي لا واقعي كما يعرف ذلك من قرأوا المقال". بالرغم من أني اختلفت لاحقًا مع رموز منهم في المجلس الوطني السوري لمواقف بعضهم من الكرد، وتبين الآن أنهم، بكل تناقضاتهم، كانوا أوضح من أولئك الذين يتمظهرون اليوم وكأنهم ورثة الثورة ويتسلمون دفة الحكم.
حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، كنت أكتب يوميًا، ضد النظام، لا لأكتسب جمهورًا، بل لأُبقي الضوء، ضمن إمكاناتي، مشتعلاً في الظلمة، أو أحاول إطفاء النار كما تفعل العظاءة في أسطورة النبي إبراهيم. وفي مجموعتي "ساعة دمشق" التي طُبعت 2016، وكتبت نصوصها منذ بدء الثورة يومًا بيوم، لم أروِ ذاتي، بل أرّخت أوائل الشهداء، وتتبعت أسرى، وسجّلت يوميات النزوح، ودوّنت دموع الأطفال. في هذه المرحلة كتبت مع كل قرية ومدينة تُعدّان من عناوين - الأكثرية - أو السنة، ووقفت مع سلطويي العلويين الذين آذوا السوريين. هذه هويتي. هذا أنا...
تأسيسًا على هذا، ولمن يدّعون أني أنحاز لما يسمونه أقليات، فإنهم قد أغفلوا أنني كنت مع الثورة السورية منذ أصعب لحظاتها. كتبت عنها، ورافقتها، وفضحت - وفق إمكاناتي المتواضعة - عنف النظام في مقالاتي اليومية، في وسائل الإعلام، وفي كتبي التي صدرت بين 2011 و2016. يكفي أن يُقرأ ديواني "ساعة دمشق"، أو ديواني "أستعيد أبي"، ليتضح أن نصوصي كانت تنبض بالثورة منذ يومها الأول، وتُكتَب كما تُحفر على الجدران، لا كما يُصاغ البيان. هذه الكتب ليست خطبًا أو خطابات، بل وثائق وجدانية حقيقية، تؤرشف الغضب، وتسجل الدم، وترصد الخوف وهو يتحوّل إلى حلم.
أتذكر حين جاء مهندس إلى مجلس عزاء مشعل التمو في الشارقة في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، يريد إزالة علم الثورة الذي لم أتبجح به يومًا، ولا علّقته في بيتي، قلت له أمام الجميع: "أنت آخر من يعزي بمشعل"، في إشارة لأمر آخر، وكان متغطرسًا ذا سطوة، لكنه لم يكن أقوى من موقف يستند إلى شجاعة الحقيقة ذاتها.
في قامشلي، كان بيتي أحد بيوتات التنسيقيات، ومنه انطلقت أول المظاهرات. كان أولادي وبعض شباب الحي والمدينة يحوّلون البيت إلى خلية لا تُرى، كما بيوت قليلة، لكنها تحرّك الشارع. في ذلك الوقت، كان مَن ينتقدون موقفي اليوم يختبئون خلف نوى التنسيقيات، أو يلتزمون الحياد، بينما كان هناك من يدوس علم الثورة، ثم عاد لاحقًا يذرف عليه الدموع ويتباهى به.
من هنا فإنَّ موقفي من "ب ي د" حين لاحقهم والكرد تنظيم داعش والفصائل المأجورة، لم يكن استجابة لإعجاب سياسي، بل انحيازًا إلى الإنسان حين يُطارد. قلت "أتقدم بطلب انتسابي إلى ب ي د"، في زمن ما بعد اعتقال السيد عبدالله أوج آلان 1999. في زمن مطاردتهم من قبل النظام قبل 2011 لأن في بيتي نام بعض إعلامييهم، وفي بيتي الأول وجدوا ما أمكن من الحماية على حساب الخطورة على حياتي، وذلك ليس من خلال القناعة بأيديولوجيتهم، بينما كان هناك من يتهربون منهم ولم يبق ممن يأوونهم في الحي إلا أشخاص قلة، وهو ما يتذكره الشاعر إبراهيم بركات.
إنني لم أتواصل مع "ب ي د" حين صاروا سلطة، بالرغم من دعوات بعضهم لي: نورالدين صوفي، عبد السلام أحمد، آلدار خليل - كل منهم عن طريق صديق أو صديقة، وهم أحياء يرزقون - بل حين كانوا ملاحقين. لم أفتح بيتي لـ"الوفاق" بعد تمكينهم، بل حين اغتيل قائدهم. بيان اغتيال قائدهم خُطّ من قبلهم على كمبيوتري، كما بيانات أخرى. لم أسألهم عن برنامجهم، بل عن جوعهم وخوفهم.
عندما اجتاح تنظيم داعش الإيزيديين في آب (أغسطس) 2014، لم أتردد أن أقول: "أنا إيزيدي"، لا استدراجًا لعطف، ولا تزويقًا لافتًا، بل لأن المذبحة لم تكن تحتمل الحياد، ولأن المجزرة لم تكن تقبل المواربة. قلتها وأنا أحمل رأيًا خاصًا عن تاريخ هذه الديانة التي أراها امتدادًا لديانة أو ديانات كردية قديمة، آمن بها الكرد وجيرانهم آنذاك، وإن تشكلت في اسمها وأرومتها أو دورتها الحالية بعيد ظهور عدي بن مسافر رحمه الله - تدريجيًا - بنسخة متأثرة بالإسلام، ومختلفة، بل مغايرة عن بعض تفاصيله في آن، وعلى تماس مع الزردشتية، ومشتبكة مع شذرات من اليهودية، وحتى من المسيحية. لكن كل هذا النقاش اللاهوتي انحسر لحظة الخطر، فصارت الهوية دمًا، لا فكرة، لكنها امتداد ديانة الكرد الأولى التي يشترك بها الكرد: إيزيديين وغير إيزيديين.
وعندما قلت أيضًا: "أنا علوي"، "أنا مسيحي"، "أنا درزي"، فإن ذلك لم يكن لأن الهويات أوسمة، بل لأن الاستفراد بالناس بذريعتهم الطائفية لا يمكن إلا أن يُواجَه من قلب الطائفة المستهدفة. وأدرك تمامًا أن ثمة وجوهًا درزية كانت في السلطة، وأن سليم كبول، وفهد الشاعر، وياسر الشوفي - لي أصدقاء معارضون مخلصون أيضًا من الأسرة نزيه وجبر - كانوا في مواقع أذَتْنا، كل في مرحلة ما. كتبت ضد من عاصرتهم منهم، وواجهت بعضهم، ولكن لا يجوز أن يتحول الانتماء إلى صك إدانة، ولا أن يُختزل الفرد بسيرة السلطة.
من هنا، فإن افتخاري ليس بما كتبته، بل بمن قصَدني. حين كان الناس يُظلمون - بضم الياء - كانوا يأتون إلي. وحين كان يمكن لي أن أنتفع، أن ألتحق بركب المنتفعين، لم أفعل. بل حين استُدعيت إلى تحقيق في دمشق في 2005، بعت ثلاجة البيت، وسافرت على نفقة من آمنوا بكلمتي. خصّني بعد ذلك بعض مدراء شركات مثل "جوان"، "دجلة"، ثم "الرافدين"، ببطاقات سفر، في مقاعد رجال الأعمال، لا لأنهم يشاطرونني الموقف تمامًا، بل لأنهم كانوا مع أي صوت يدافع عن العوام والمضطهدين.
أجل، كنت أستطيع أن أنتفع كما فعل غيري، لكني لم أكن أريد أن أستفيد على نحو رخيص، بل أن أقول. لم أكن أبحث عن منبر، بل عن متّسع للرفض. ليلة أمس ناقشني أحد طلابي السابقين، الذي عرفته- وهوعربي- في قرية علمتُ بها، ثم طالب إعدادية في مدرسة درست فيها قبل أن أُطارد وظيفيًا، فاجأني أنه قد صار صديقًا للكرد ميدانيًا، وسألني عن موقفي في بعض المستجدات، لا سيما فيما يتعلق بنصرة الدروز. شرحت له أن الوجوه العلوية في السلطة التي آذتني لم تكن وحدها، بل كان إلى جوارها أدوات محلية من أبناء منطقتي، كتبة تقارير، وعيون السلطة. وقد كتبت ضد سليم كبول حين كان محافظًا، وقد واجهت حسين حسون وأنا طالب ثانوية دفاعًا عن لقمة الناس وكرامتهم، ووقفت بوجه محافظين وسلطويين آخرين، ومنهم المدعو إبراهيم عزو في مكتبه وكان أمين فرع حزب البعث، لأن الحياد في لحظة الطغيان خيانة.
إنما ما أكتبه ليس سيرة فرد، بل سيرة موقف. ليست حكاية نضال مدّعاة، بل خريطة خسارات. إذ كلما انكسرت طائفة، وقفت إلى جوارها. كلما تعرّض مسيحيون لضغط، قلت "أنا معهم"، ويعرف هذا أصدقائي من الآشوريين والسريان، رغم أن قلة من سلطوييهم لا من عوامهم - لا سيما المستبعثين - كما الأدوات من البعثيين لا المكرهين على حزبيتهم انتهازية أو خوفًا، حاولوا تأليبي أو إقصائي، لكنهم ظلوا قلة لا تؤثر في بوصلتي.
الناس يميلون إلى القوي، يتلونون مع السلطة الجديدة، يلبسون وجه المرحلة. أما أنا، فقد كنت - وما زلت - ضد القوي، حتى لو كان اسمي. من هنا، يا صديقي، فإنني أتباهى بخساراتي، لا بمكاسبي. أعتز بما لم أربحه. لأن الوقوف مع المظلوم، حين يكون له تفسير، يصبح مغامرة. مغامرة الاحتراق لا التجمّل. مغامرة التضحية لا الكسب. هكذا عشت، هكذا أمضي، وهكذا سأظل.