لا شك أنَّ إيلون ماسك هو أحد أكبر عباقرة عصرنا الحالي، ويستوي في ذلك مع العديد من العباقرة الذين غيّروا حياتنا، وخاصة في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، مثل بيل غيتس (ميكروسوفت)، وستيف جوبز (آبل)، وجيف بيزوس (أمازون)، وجاويد كريم (مؤسس يوتيوب)، ولاري بيج وسيرجي برن (مؤسسا جوجل)، وجاريت كامب (مؤسس أوبر)، وجاك ما (مؤسس على بابا)، وتشانغ يي مينغ (مؤسس تيك توك)، وغيرهم.
وقد أصبح ماسك أغنى رجل في العالم بما يملكه في الشركات التي أسسها بنفسه، مثل تيسلا وستار لينك وسبيس إكس وغيرها، وكذلك اشترى شركة تويتر.
وبالرغم من عبقريته، فإنه في تقديري قد ارتكب أكبر خطأ في حياته عندما دخل في السياسة الأميركية في عز زخم الحملة الأميركية لانتخابات الرئيس في العام الماضي، لأنه بذلك قد خسر نصف الشعب الأميركي (نظراً للاستقطاب الشديد الآن في أميركا)، يعني لو شخص ديموقراطي رأى ماسك يؤيد ترامب فإنه سوف يكره ماسك بنفس القدر الذي يكره به ترامب، مما أدى الأمر إلى حد أن وصل ماسك تهديدات بالقتل من بعض المجانين الديموقراطيين، كما عمد بعضهم إلى تحطيم بعض سيارات تسلا سواء عند الوكلاء أو حتى في الشارع، لدرجة أن صديقاً عزيزاً لديّ عنده سيارة تسلا اضطر لحماية نفسه وأسرته من الاعتداء إلى تعليق لافتة صغيرة على زجاج سيارته تقول: "لقد اشتريت سيارة تسلا عندما كان إيلون ماسك عاقلاً"!
وبالفعل، لست أدري ما الذي أصاب ماسك لكي ينضم إلى السياسة، حيث إنه أغنى رجل في العالم ولا يحتاج إلى مال أو شهرة؛ التفسير الوحيد أنه كان يحتاج إلى السلطة السياسية المجنونة والممثلة في الاقتراب من ترامب، أكبر مجنون سلطة شاهدناه في هذا القرن، لذلك وجدنا ماسك يحضر إلى مكتب الرئيس ترامب وكأنه مكتبه الخاص، وهو بملابس غير رسمية، ومعه طفله الصغير ذو الأربع سنوات فوق كتفه، والذي نزل من كتف أبيه وأخذ يعبث بالمكتب البيضاوي الشهير، بل ونشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي صورة مفبركة لماسك وهو يجلس على مكتب الرئيس بدلاً من ترامب.
وهناك تقديرات تفيد بأن ماسك قد أنفق أكثر من 250 مليون دولار على الحملة الانتخابية الأميركية في العام الماضي، ويعتقد معظم المراقبين بأنه كان أحد أهم أسباب نجاح ترامب والحزب الجمهوري في الانتخابات.
وقد أوكل ترامب إلى ماسك أسوأ مهمة في أي حكومة، وهي محاولة تخفيض الميزانية الأميركية لخفض مستوى الدين الأميركي الرهيب، ويتطلب هذا الأمر إنهاء خدمات الآلاف من موظفي الحكومة الأميركية، مما سبب مزيداً من العداء تجاه ماسك، وأعتقد أن ماسك قد فوجئ بمواجهة الدولة العميقة والتي عمرها حوالى 250 عاماً، وأن هزها وخفض نفقاتها سوف يتطلب أكثر من مجرد منشار كهربائي (حسب صورة ماسك الشهيرة ممسكاً بمنشار كهربائي)، ويبدو في هذه الصورة ماسك وكأنه طفل ممسك بلعبة جديدة وسوف يمرح بها، ولكنه فوجئ بأنه كما نقول في مصر: "دخول الحمام مش زي خروجه"!
وفجأة، وجدنا ماسك يهاجم الميزانية التي أعلنها ترامب وقدمها للكونغرس باعتبارها "الميزانية الكبيرة والجميلة"، ويبدو أن ترامب قدم هذه الميزانية بدون أخذ رأي ماسك، والذي جاء خصيصاً لتخفيض الميزانية، وفوجئ ماسك بأن هذه الميزانية سوف تضر بمصالحه ومصالح شركة تسلا، حيث إن الميزانية قامت بإلغاء مبلغ الإعفاء الضريبي لكل من يشتري سيارة كهربائية، الأمر الذي ساعد في الماضي شركة تسلا في زيادة مبيعاتها، واكتشف ماسك فجأة بأن مساعدته لترامب أثناء الانتخابات لم ينتج عنها إلا تضرر مصالح شركته.
ثم تطور الهجوم المتبادل بين الطرفين إلى حد أن ماسك هدد بمساعدة إسقاط أي سيناتور أيد ميزانية ترامب في الانتخابات النصفية القادمة، كما أعلن عن تأسيس حزب ثالث أميركي (حزب أميركا) يضم الأغلبية الصامتة، والتي أطلق عليها في مصر (حزب الكنبة)، وهم من يشاهدون الانتخابات على شاشة التلفزيون، وتبلغ نسبتهم في أميركا حوالى 40 بالمئة من إجمالي الناخبين، وقد حظيت فكرة ماسك لتأسيس حزب ثالث في أميركا بتأييد واسع، وأنا شخصياً أؤيد ضرورة وجود حزب ثالث معتدل بين اليمين واليسار المتطرفين.
ووصل الهجوم على ماسك إلى أن طالب ترامب ماسك أن يأخذ مصانعه ويعود إلى جنوب أفريقيا، وهذا يتناقض مع دعوته من (حوالى شهر) للبيض من جنوب أفريقيا بالهجرة إلى أميركا لكي يتجنبوا التفرقة العنصرية ضد البيض على حد قوله، ليس هذا فقط، بل إن ترامب بعد أن كان يقوم بتسويق سيارات تسلا الكهربائية أمام البيت الأبيض، فجأة وجدناه وهو يهاجم السيارات الكهربائية قائلاً مستنكراً: "من يحتاج سيارة كهربائية؟!"؛ سبحان مغير الأحوال!
كما ظهرت بعض الإشاعات من متطرفين جمهوريين في الكونغرس تطالب بسحب الجنسية الأميركية من ماسك وترحيله من أميركا، وهذه الإشاعات تثير القلق لدى المهاجرين الحاصلين على الجنسية الأميركية، حيث إنهم يقولون: إن كان حقاً يفكر ترامب وحزبه في ترحيل ماسك، أغنى رجل في العالم، من أميركا، فكيف يكون الحال مع المهاجرين الغلابة!
وقد ذكّرتني هذه الخناقة بين ترامب وماسك بحكايات الفتوات في روايات نجيب محفوظ، حيث الصراع بين فتوة الحارة (السلطة) وبين تجار الحارة (الثروة)، وأن فتوة الحارة كان يأخذ الإتاوات من الأثرياء لحمايتهم وضمان أمنهم، وكيف أن الثروة والسلطة أحياناً تتحالفان معاً ضد عامة سكان الحارة، وأحياناً يتصارعان بدون أن تستفيد الحارة شيئاً في كلتا الحالتين، ودائماً كان يفوز الفتوة على الأغنياء.
وأنا أعتقد أن ترامب في وضع أقوى كثيراً من ماسك في هذا الصراع، لأن السلطة أقوى من الثروة، حتى لو كان ماسك أغنى رجل في العالم، لأن ترامب رجل مصالح وليس عنده كبير سوى ترامب، وممكن أن يحطم ماسك بالقانون والقضاء، وخاصة أن الكونغرس والمحكمة الدستورية معه، وبعض القضاة الفيدراليين.
وهناك مقولة تنسب إلى ابن خلدون تقول: "السلطة مثل النار، من يقترب منها كثيراً يحترق".
وأتوقع أن على ماسك أن "يجر ناعم" مع الرجل القوي ترامب، ويبلع لسانه، ويستحمل ثلاث سنوات ونصف، وعلى رأي أغنية أم كلثوم أن "يبوس القدم ويبدي الندم على فعلته في حق الغنم"!