: آخر تحديث

حين يصبح الغباء الاجتماعي طقساً مقدساً

3
3
3

لا شيء يرهق الروح أكثر من محاولة إقامة حوار مع عقلٍ قرر أن يبقى مغلقاً كضريحٍ حجري، لا يُفتح إلا على جثث المعاني المشوهة!

إن الغباء الاجتماعي أكثر من مجرد خلل في الفهم أو بطء في الاستيعاب، بل هو منظومة دفاعية كاملة تحمي الكسالى ذهنياً من أي اختراق قد يهدد استقرار جهلهم، هو درعٌ ضد التغيير، حصنٌ يُرفع كلما اقتربت فكرةٌ جريئة، وكلما حاول الوعي أن يتسلل إلى الداخل.

الغباء الاجتماعي هو الاتفاق غير المعلن على بقاء الأشياء كما هي، مهما بدت خاطئة أو مجنونة!

هو الولاء الأعمى للعادات، وللأحكام السطحية، وللردود الجاهزة التي تُطلق في المجالس والنقاشات دون وعي أو مساءلة، تراه في من يكرّر ما سمعه دون أن يفهمه، فيمن يغضب حين تُسائله لا لأنه واثق، بل لأنه فارغ، الفارغون يصيحون كثيراً… لا لأنهم يملكون شيئاً، بل لأنهم يعتقدون أن الضجيج يمنحهم وزناً.

الغباء الاجتماعي هو أيضاً تلك القدرة المرعبة على إقصاء المختلف، وشيطنة الذكي، واتهام العميق بالادّعاء. من يملك فكرة جديدة في مجتمعات يغمرها الغباء الاجتماعي، لا يُستقبل بالحفاوة بل بالريبة، كأن الذكاء تهمة، وكأن الفهم المؤلم للمشهد خيانةٌ جماعية. يتفقون ضمناً على أن من يُفكر خارج القطيع، لا ينتمي، ولو كان يسبقهم بألف سنة ضوئية.

هؤلاء الأغبياء لا يظهرون دائماً على هيئة جهلاء بسطاء، بل قد يكونون مثقفين، ولكنهم لا يستعملون ثقافتهم إلا كحلية اجتماعية، كزينة فوق رؤوس خاوية. يستعرضون معلوماتٍ لم يفهموها، ويُحاضرون في مفاهيم لم تهزّ أعماقهم. الغبي اجتماعياً لا يهمّه صدق الفكرة، بل شكلها. لا يهمّه عمق السؤال، بل (ملاءمته) للمشهد، هو عبدٌ للانطباع، رهينةٌ للمظهر، مهووسٌ بما سيقوله الآخرون لا بما يُقال فعلاً!

تجده يُسارع للحكم على الناس من لباسهم، لهجتهم، نسبهم، مستواهم المالي، ويظن أن كل تلك المؤشرات تختصر إنساناً كاملاً، هو لا يبحث عن الحق، بل عن (الارتياح الاجتماعي). لا يطرح سؤالاً إلا ليؤكد لنفسه أنه على صواب. لا يسمع إلا ما يُرضيه، ويغلق أذنه حين يهدده صوت الحقيقة. أما أكثر ما يخشاه الغبي اجتماعياً، فهو لحظة الصمت… تلك اللحظة التي ينكشف فيها ضحالة ما يحمل، ويضطر فيها أن يواجه نفسه عارياً من التبريرات.

الغباء الاجتماعي لا يتعلق بدرجة الذكاء، بل بكيفية استخدام العقل. هناك أذكياء رياضياً، أو ناجحون مهنياً، لكنهم يمارسون غباءً اجتماعياً مذهلاً حين يتعاملون مع الناس على أساس طبقي، أو عندما يرفضون كل ما يخالف صورتهم المثالية عن (الطبيعي)، والطبيعي لديهم ليس ما يتماشى مع الفطرة، بل ما اعتادوا عليه، ولو كان زيفاً!

لذلك، يغضب الغبي الاجتماعي من الفن الغريب، من الشعر الحر، من الفكرة المربكة، من الاختلاف الثقافي، لأنه لا يحتمل عالماً لا يستطيع وضعه في جدولٍ مألوف.

هو لا يجرؤ أن يسأل: لماذا؟ لأنه يخشى أن يأتي الجواب مزعزعاً. ولا يجرؤ أن يتأمل: ماذا لو كنا نحن الخطأ؟ لأنه لا يحتمل هشاشته. إنه لا يعيش ليكتشف، بل ليكرر. لا يشارك في الحياة ليغيّرها، بل ليؤكد استمرارها كما هي، حتى لو كانت مليئة بالبشاعة. وكلما زادت هشاشته الفكرية، زاد تمسكه بالقواعد، وتحوّل الغباء لديه إلى يقين… واليقين الأحمق أخطر من الجهل.

في المجتمعات التي يسودها الغباء الاجتماعي، تصبح الأسئلة ممنوعة، ويُستبدل البحث بالصراخ، ويُخنق الإبداع باسم (الاحترام)، وتُقمع الحرية تحت عباءة (الأدب)، يصبح المجتمع كله حفلة تنكرية، يرتدي فيها الجميع أقنعة التفاهم، بينما لا أحد يسمع أحداً، تُصبح الحياة مسرحية سيئة الإخراج، يلعب فيها الجميع أدواراً لم يفهموها، يرددون كلماتٍ لا يشعرون بها، ويتظاهرون بالفهم كي لا يُصنَّفوا.

أسوأ ما في الغباء الاجتماعي أنه يُكافَأ. فالغبي اجتماعياً ينجو في المجالس، ويحظى بالترقية لأنه لا يهدد أحداً. يُحبّه رؤساؤه لأنه لا يُسائل. تصفق له الجماهير لأنه يشبههم. إنه يُرضي الجميع… لأنه لا يزعج أحداً بالحقيقة.

ولكن الكارثة الحقيقية ليست في وجود الأغبياء اجتماعياً، بل في سيطرتهم على المناخ العام. حين تصبح الأغلبية من هذا الصنف، يختنق الذكاء ويُلاحَق النبوغ. يهرب المختلف، أو يُهمّش، أو يُكسر. ويغدو الغباء نمطاً عاماً، لا يُرى كعيب، بل كنوع من (الاندماج).

هنا، يصبح السؤال: هل نُقاوم؟ هل نصرخ في وجه الطوفان، حتى لو كنا قلة؟ أم نبتلع ذكاءنا كي لا نُنفى من الوليمة؟ إن الثمن الذي يدفعه العاقل في مجتمع غبي اجتماعياً ليس بسيطاً… لكنه ضروري. لأن الصمت أمام الجهل، نوعٌ من التواطؤ. والمهادنة المستمرة، تتحول مع الوقت إلى خيانة للذات.

قد لا نغيّر العالم، لكننا نستطيع أن نحمي عقولنا. أن نُبقي نار الشك مشتعلة، وأن نُصرّ على أن التفكير ليس جريمة، وأن الاختلاف ليس لعنة. في مواجهة الغباء الاجتماعي، لا يكفي أن تكون ذكياً… يجب أن تكون شجاعاً.

لأن الذكاء بلا شجاعة… ينقرض.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.