في خطبة من خطب عبد الله عزام، يتكلم الرجل عن رائحة مسك كانت تفوح من جسد مقاتل عربي في أفغانستان، مما حدا بصحفي كندي إلى أن يعتنق الإسلام بسبب هذا الأمر.
خطبة ما زال يهواها البسطاء السذج الذين يأملون بالأساطير التي توصلهم إلى الطمأنينة الدينية من مجهول مغلف بقدسية الأوهام، مما يدلل على منهجية عبد الله عزام المعتمدة في استقطاب وبناء قاعدة شعبية قائمة على الخرافة الدينية في سبيل تحقيق زعامة جهادية تهيأت الظروف لها على أرض الحرب هناك.
منهجية تتوجت بكتاب بعنوان: "آيات الرحمن في جهاد الأفغان"؛ والذي تناول هرطقات عن كرامات مقاتلي الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي آنذاك، لعل أبرزها خرافة تفجير دبابة روسية بحفنة تراب.
وبعيداً عن أسباب الحرب وظروف القتال، والأطراف الخارجية التي مدت أصحاب الكرامات بالدعم العسكري واللوجستي لمحاربة الاحتلال السوفيتي، وبعيداً عن اقتتال أصحاب الكرامات أنفسهم بعد انسحاب آخر جندي روسي عام 1989، ما زالت تجربة عبد الله عزام محل جدل يحتاج إلى بحث وتمحيص، حيث يُتفق على أنها الأكثر ضحالة في تشكيل التنظيمات التي تسلك في خطها الجهادي على المزج بين الجانب الديني من خلال أيديولوجية مرتكزة على الجهل والتجهيل لاستقطاب المسلحين، وبين تهلهل هياكلها الإدارية والتنظيمية العنقودية، والتي أسهمت في اقتتال تلك المجموعات المسلحة، والتي استغلها فيما بعد أسامة بن لادن في اتجاه توظيف مكانته وسيطرة تنظيمه (القاعدة) داخل الأوساط الجهادية من جهة، ومن جهة أخرى على مفاصل الدولة وتجييرها في خدمة أعماله الإرهابية بالتحالف الاستراتيجي والعسكري مع حركة طالبان.
اقتران تجربة عبد الله عزام بمسيرة أسامة بن لادن، انعكس، كما ذُكر سابقاً، على مجمل الانشقاقات والانشطارات الفكرية التي أنتجت فكراً أكثر تطرفاً وتشدداً، أنهك أفغانستان وأوصلها إلى حالتها اليوم في ظل حكومة طالبان المنقسمة حول الهامش المتاح أمام قادتها لإدخال إصلاحات يراها الكثيرون غير مجدية في معالجتها لمشاكل البلد الغارق في الفقر والديون والعزلة الدولية.
الشاهد مما سبق أن ما تعاني منه أفغانستان يتحمله ذيول حقبة الفكر الأصولي الجهادي؛ الذي مزقها ولا تزال دوائره تحكم البلاد والعباد من خلال ذات هرطقات الخطاب الديني الرجعي، الذي لم يستطع إنشاد أفق جديد له ليتطور، بسبب أطماع ومصالح القائمين عليه.
ما زرعه عبد الله عزام استثمرته بالمحصلة جماعة الإخوان المسلمين خلال سنوات تلت، وبنت دعايتها السياسية كبوتقة الأيديولوجية الدينية التي فرّخت نماذج عديدة داخل الدول العربية، بهدف الاعتماد على الطبقات العوام من أجل الوصول إلى الحكم والبقاء على سدته أطول فترة ممكنة.
فحاكت الجماعة باسم الدين الإسلامي العديد من السرديات الهادفة لترويج أفكارها ومعتقداتها، وظّفت أجزاء منها لضرب قواعد الدولة الوطنية في العديد من الدول العربية من خلال اختلاق افتراءات سياسية؛ تبيّن فيما بعد أنها لا تمتّ للواقع بصلة.
التأييد الإلهي؛ الجملة التي طرحتها الجماعة في كل ممارسات قادتها ومساقات سياساتهم، فكانت الركيزة الأساسية في خطابهم السياسي المغلف بقدسية الدين، وهو ما ظهر إبان ثورات ما سُمّي زوراً وبهتاناً بالربيع العربي؛ فمثال محمد مرسي وجماعته في مصر بكل ممارساتهم الخاطئة؛ حاولوا جاهدين زرع فكرة التأييد الإلهي لهم، والمراجعة التوثيقية لمحصلة التصريحات الصادرة عنهم في فترة حكم مرسي، تؤكد ذلك.
حماس، الفرع الفلسطيني من الجماعة، ليست بعيدة عن هذه الأساليب الانتهازية السياسية في استثمار الدين للوصول إلى مآرب السلطة والحكم، بل وظّفتها في الصراع مع الإسرائيلي الذي بنى وجوده أيضاً في فلسطين على الرواية والسردية الدينية التوراتية، وساهم في تعزيزها عبر تقوية حركة حماس من أجل تبرير جنوحه نحو سياسات اليمينية الدينية الساعية من خلالها لتكريس يهودية الدولة.
مجدداً، إسرائيل التي سمحت بانقلاب ميليشيات حماس في قطاع غزة، ومدّت سلطتها طيلة سنوات حكومات بينامين نتنياهو المتعاقبة بأسباب البقاء لخلق توازن يمنحها هامشاً دينياً في الصراع مع فصائل وأيديولوجيات جهادية إسلامية؛ كحركة حماس.
ليأتي يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) المشؤوم، ويعترف بينامين نتنياهو بأن ما جرى سهّل على دولة إسرائيل امتلاك الشرعية أمام المجتمع الدولي لإعادة احتلال القطاع مجدداً، مسوّقاً سرديته الدينية مستمداً من التعاليم التلمودية مسمّيات حملاته وجولات تصعيده.
يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاه من حرب الإبادة على سكان قطاع غزة، وما رافقه من مسارات سياسية وتفاوضية معقدة، خاضها قادة حماس دون سردية سياسية واضحة متكاملة قائمة على رهانات تفضي إلى أوراق قوة، بل اعتمدت على أيديولوجيتها الدينية في تسويق عجزها عن صد أو ردع تمادي القوات الإسرائيلية، كعصا يحيى السنوار التي يحارب بها تكنولوجيا عسكرية إسرائيلية.
سردية حماس وأهدافها التي استندت عليها في تبرير عبثها العسكري والسياسي منذ ذلك اليوم المشؤوم، لم تقنع مجمل النخب الفكرية العربية التي انصدمت بحجم الهوة بين واقع الصراع وتداعياته وعقم خطاب حماس السياسي بشعاراته وغوغائيته، فاضطر كثير من هذه النخب إلى الصمت أمام مسارعة حماس في توظيف رعاع جماعة الإخوان المسلمين لإظهار شعبية لأفعالها وممارساتها، وهجومهم المنتظم على أي رأي مخالف لهم؛ شعبية اندثرت سريعاً أمام ما جرى في الإقليم، فأضحى مجرد الوصول إلى وقف الحرب هو الهدف بحد ذاته، في إعلان حقيقي لسقوط كافة السرديات التي اعتمدتها حماس وحلفاؤها.
اليوم، تعاني المنطقة العربية برمّتها من رواسب هذه الهرطقات الدينية التي عاثت بالوعي الجمعي العربي، فباتت معركة اقتلاع جذورها تتطلب مراجعة فكرية عميقة، يرافقها أسس علمية بأساليب حوارية مقنعة معتمدة على وسائل التواصل الاجتماعي، تتضافر بها جهود مؤسسات بحثية وإعلامية مدعومة من دول تقود مهمة نشر خطاب متماسك يعرّي هذه الأيديولوجية، مستهدفاً طبقات مجتمعية مؤمنة بأن هذه الهرطقات حقائق متجسدة على الأرض.