: آخر تحديث

الحرية بوصفها معرفة: حين نخشى أنفسنا أكثر من الآخرين

2
2
2

نحن نخشى حماقات الآخرين، ذلك مفهوم.

فالآخر مجهول، متفلّت، لا نملك أن نقرأ دواخله، ولا أن نضبط ردود فعله.

الخوف من الآخر ناتج عن غرابته، عن فوضويته المحتملة، عن كونه ليس نحن.

لكن ما لا يبدو بديهيًا هو أن نخشى حماقاتنا.

كيف نخشى ما ننتجه نحن؟

كيف نرتعب من قفزات قد تنبع من داخلنا، ونحن نزعم أننا "نملك" هذا الداخل؟

ألسنا نعتقد أننا سادة ذواتنا؟

ألسنا نظن أننا نُحسن التحكم بأنفسنا، نزعم أننا نوجّه قراراتنا، ونزن كلماتنا، ونعرف ما نريد وما لا نريد؟

لكن، لنتمهّل قليلًا… من هي هذه "الذات" التي نزعم السيادة عليها؟

وهل الذات كيان بسيط، موحد، مطيع؟

أم أنها، كما تُشير التجربة وكما تفصح العثرات، كيان مركّب، تتنازع فيه الأصوات، وتتناوب عليه الأدوار، وتناوشه رغبات متضادة؟

من السيد إذًا إن لم تكن الذات؟

هل السيادة الحقيقية تعني التحكم المطلق؟ أم الاعتراف بحدود السيطرة؟

وهل نكون أسيادًا على أنفسنا حين نكبحها فقط؟ أم حين نفهم تراكبها، تشظّيها، تعدد وجوهها؟

ربما نحن ذوات مركّبة ومتراتبة… طبقات تعلو طبقات، بعضها نعرفه، وبعضها يطل علينا في لحظات الغفلة، أو الحماقة، أو الحلم.

في داخلنا طفل لا يكبر، وسجين لا يُرى، ومراقب متخفٍّ، وندم يتحدث بعد فوات الأوان.

كل هؤلاء يسكنون "الذات"، فكيف نزعم السيادة عليها وكأنها فردٌ واحد مطيع؟

نحن نخشى حماقاتنا لأننا لا نعرف من في داخلنا قد يتصدر المشهد غدًا.

وقد نفاجأ بأننا لسنا نحن، بل أحد "الآخرين" المقيمين فينا.

فكما نخاف الآخر لأنه غريب، نخاف أنفسنا لأن فيها غُربة لا نفهمها بعد.

لهذا لا نكفّ عن الدعاء: "يا مقلب القلوب، ثبّت قلبي على دين".

ليس فقط لأنه دعاء إيماني، بل لأنه اعتراف وجوديّ عميق بعجزنا عن السيطرة الكاملة على هذا القلب المتقلب - الذات -، مهما توهمنا السيادة عليه.

فهل يحق لنا، بعد ذلك، أن نظل على يقيننا بحريتنا؟

وهل ما نشعر به من تحكم وإرادة ليس سوى وهمٍ دافئ، نغطي به هشاشة بنيتنا الداخلية؟

ربما لسنا أحرارًا كما نحب أن نُصدّق، وربما الحرية ليست إطلاقًا، بل وعيٌ بقيودنا.

إنَّ الحرية التي نتحدث عنها كثيرًا وننشدها في الشعارات، لا تبدو، عند التأمل، تلك القدرة المطلقة على الفعل، بل هي أشبه بمحاولة دائمة لفهم ما فينا، لفكّ شيفرات الداخل، والتفاوض مع القوى الخفية التي تحركنا دون أن نعلم.

هي ليست حرية "من الداخل"، بل حرية "رغم الداخل".

فحين نقول إن الحرية "ليست من الداخل بل رغم الداخل"، فإننا لا ننكر أن الوعي والإرادة ينبعان من داخلنا، بل نقول إن هذا "الداخل" ذاته ليس خالصًا ولا حرًا كما نتصوره.

الداخل مسكون بالتاريخ الشخصي، بالرغبات الدفينة، بالعقد النفسية، بالحنين، بالخوف، بالاستجابات التلقائية التي لا تمرّ على محكمة العقل.

فحين "أرغب"، من الذي رغب أولًا؟

وحين "أختار"، من الذي دفعني للاختيار؟

أأنا من قرّر؟ أم اللاوعي، أم السياق، أم حاجة خفية في النفس لم أسمّها بعد؟

لهذا لا تبدو الحرية كحالة نمتلكها، بل كمسار نكتسبه، وعيًا بعد وعي، وانتباهًا بعد غفلة.

الحرية لا تبدأ من الداخل، بل من لحظة إدراكنا أن الداخل ذاته ميدان معركة، لا نقطة انطلاق.

إنها حرية "رغم ما فينا"، لا لأننا نُقصي دواخلنا، بل لأننا نحاول أن نفهمها ونكبح سلطتها.

ليست الحرية في الفعل المطلق، بل في المساءلة، في التردد، في الشك، في لحظة الصمت التي تسبق القرار.

الحرية ليست نقيضًا للقيد، بل وعينا به.

وليست نفيًا للحدود، بل إصغاء لما تحدّه وتفتحه في آن.

وهكذا، حين نقول "ثبّت قلبي"، فنحن لا نطلب فقط أن نُمنح الثبات،

بل نعترف ضمنًا بأننا لا نملكه، وأن فينا قلبًا يتقلب دون استئذان.

وفي هذا الاعتراف، ربما تبدأ أولى درجات الحرية الحقيقية.

لكن هل نقول ذلك لنتخلى عن مسؤوليتنا؟

هل هذا الحديث عن تشظي الذات، وتعقيد الداخل، وحدود الحرية، يُستخدم كذريعة لتبرير الانفلات؟

هل نُطلق الأحكام على النفس لا لنفهمها، بل لنعفيها مما يجب عليها؟

في الحقيقة، لا شيء يُسقط المسؤولية مثل الجهل.

وليس هناك جهل أخطر من ذاك الذي يتخفّى تحت قناع الفهم.

أن أقول "لا أتحكم بنفسي" دون أن أسعى لفهم ما يعيقني، هو تمويه لا تأمل، هو هروب لا اعتراف.

هنا يطلّ علينا وجه سبينوزا بقوة:

الحرية، في نظره، ليست فعلاً منفصلًا عن الحتمية، بل هي أن نفهم هذه الحتمية.

الحر، في منظوره، ليس من يفعل ما يشاء، بل من يعرف لماذا يشاء ما يشاء.

وحين نفهم الأسباب التي تحكم أفعالنا وانفعالاتنا، نكفّ عن أن نكون عبيدًا لها.

فالجهل، في مشروعه الفلسفي، هو عين العبودية.

ولهذا نحن لا نُعفى من أفعالنا لأننا غير أحرار، بل نُدان لأننا لم نعرف، ولم نرغب أن نعرف.

نحن مسؤولون عن جهلنا، لا لأنه خطيئة، بل لأنه خيار.

في اللحظة التي نرضى فيها بالاستسلام لعتمة الداخل، ونكفّ عن مساءلتها، نكون قد اخترنا أن نعيش بلا بوصلة.

وهذا هو جوهر التفريط: لا أن نُخطئ، بل أن نعيش دون أن نعرف لماذا نُخطئ، ودون أن نحاول أن نفهم.

المعرفة، إذن، ليست ترفًا فلسفيًا، بل شرط أخلاقي.

هي ما يحررنا من الوقوع في أسر دواخلنا، لا لأنها تمنحنا تحكمًا مطلقًا، بل لأنها تضيء ما كان خفيًا، وتكشف التراتب في ما كنا نحسبه عفويًا.

نحن لا نُحاسب لأننا نملك السيطرة، بل لأننا نملك القدرة على الفهم.

ومتى تجاهلنا هذه القدرة، أو استسلمنا لما فينا دون مقاومة، كنا نشارك في إنتاج حماقاتنا، لا ضحايا لها.

ربما لا نكون أحرارًا كما نتخيل،

لكننا بالتأكيد لسنا معفيين من مسؤولية أن نعرف.

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.