: آخر تحديث

وعي حر.. وقرار سيادي

2
1
1

في كل مرة تتعرّض فيها جماعة إرهابية أو تنظيم متطرف لانتكاسة أو هزيمة، تبدأ حملات التجييش العاطفي والمزايدات الأخلاقية، تُرفع اللافتات والشعارات القديمة عن "القضية المركزية"، وتُستحضر المفردات المستهلكة عن شرف الأمة وخيانات الأنظمة، وتُوجّه الاتهامات جزافًا إلى الشعوب والدول العربية بأنهم تخلوا عن واجبٍ لم يختاروه أصلًا ولم يبايعوا عليه.

هذا الخطاب المضلل لم يعد يصلح أن يفرض نفسه على الوعي العربي الحر، ولا أن يختطف خيارات الأفراد والشعوب تحت ذريعة الاصطفاف مع قضايا عادلة، لقد عشنا عقودًا طويلة تحت هيمنة واستعلاء فكري  يدّعي امتلاك مفاتيح الحق والحقيقة، بينما كان في الواقع مجرد ستار لأجندات سلطوية وتنظيمية لا علاقة لها بكرامة الإنسان أو حريته.

إن أخطر ما يواجه المجتمعات العربية اليوم هو محاولة إحياء تلك المنظومة البالية التي جعلت المواطن العربي مجرد تابع سلبي لقرارات نخبة متطرفة تدّعي النضال فيما هي تمارس القتل والخطف والابتزاز باسم "المقاومة". حين يرتكب هؤلاء جرائمهم ويورّطون مجتمعات بأكملها في دوامات عنف وصراعات عبثية، فإنهم لا يجدون حرجًا في تحميل شعوب أخرى مسؤولية مآلاتهم السوداء، ويطالبوننا بالتضامن المادي والعاطفي، بل ويدينوننا إن رفضنا التماهي مع دعايتهم الباكية، وكأن من حقهم أن يصادروا وعينا ويقرروا لنا ما الذي يجب أن نشعر به، وكيف ينبغي لنا أن نرى مصالحنا وهويتنا.

لقد حان الوقت لنقولها بوضوح، لا أحد يملك استعلاء فكريًا أو هيمنة على ضمائرنا، أو مصالحنا، ولا أحد يملك حق اتهامنا بالخيانة أو التقصير لأننا نرفض الانجرار إلى صراعات ليست صراعاتنا. من يظن أنه يستطيع تحريكنا كالدمى عبر ترديد خطاب الضحية الدائم، فهو لا يفهم أن الزمن تغيّر، وأن العقل العربي تحرر من أغلال الديكتاتوريات التي حكمته طويلًا باسم "القضية الكبرى".

تلك الديكتاتوريات، بأحزابها الأمنية وإعلامها الدعائي، كرّست وهماً بأن لا شرعية لأي نظام أو شعب إلا إذا قدّم أوراق اعتماد الولاء لتلك القضية التي تحولت مع الزمن إلى فزاعة تُستخدم لابتزاز الداخل والخارج. ولعقود، جرى تحويل هذه الادعاءات الباكية إلى مسرح دائم للتهديد والتحكم في ضمائر الناس ولقمة عيشهم.

وحين انهارت هذه المنظومة، انكشفت الحقائق. رأينا أن كثيرًا من الشعارات لم تكن سوى غطاء لقمع الداخل وتبرير الاستبداد، وأن شعوبنا هي التي دفعت الثمن الأغلى من دمها وحريتها ومستقبلها، واليوم، لا يمكن لأحد أن يقنعنا بأن تكرار هذا النموذج سينتج شيئًا غير الخراب.

ولنكن صريحين، من يختار حمل السلاح خارج الشرعية، ويفرض منطقه على المجتمعات ويقحم المدنيين في مغامرات عسكرية، لا يحق له بعدها أن يطالبنا بالدعم غير المشروط، أو أن يحاضر علينا في شرف الموقف. فالشرف لا يُقاس بعدد الصواريخ العشوائية، ولا بعدد البيانات الثورية الممجوجة، بل يُقاس بصدق التمثيل الشعبي، وبوضوح الأهداف، وبإيمان أصيل بقيمة الإنسان.

بالحقيقة نؤمن، نحن لسنا ضد العدل، ولسنا ضد من يسعى لاسترداد حقه المشروع بوسائل مشروعة. لكننا ضد خلط الأوراق وتزييف الوعي وإلزام الناس بتبعية عمياء لكل من يرفع لافتة الضحية وهو في الحقيقة يستعملها ذريعة لمصادرة القرار.

الأصوات التي تتحدث اليوم بنبرة التوبيخ والتخوين تجاه كل مجتمع عربي اختار أن يضع مصالحه في المقدمة، تتجاهل عمدًا أن تلك الشعوب عانت طويلًا من الابتزاز العاطفي والديني. كان يُقال لها إنك إن لم تدفع مالك وتضحي بأبنائك وتكرس اقتصادك لخدمة قضية الآخرين، فأنت خائن. أما اليوم، فقد صار واضحًا أن الولاء الحقيقي هو للوطن أولًا، ثم للقيم الأخلاقية التي لا تقبل التسييس والاتجار بها.

خذ مثالًا صارخًا على هذا التوظيف العاطفي، التنظيمات الإرهابية التي تتبع إيران في عدة ساحات عربية اليوم، هذه المليشيات التي تقدّم نفسها وكأنها درع الأمة في مواجهة أعدائها، بينما في الحقيقة هي مجرد أذرع لأنظمة إقليمية ترى مصالحها في استمرار اشتعال النار في الهشيم والأخضر واليابس. تنظيمات لا ترحم من حولها ولا تشفق على الإنسان، القتل والتدمير سلاحها، ونشر الموت أعلى غاياتها. كلما خبت، خرج غيرها. إنها دورة مستمرة من الشر المستطير لن تتوقف، لأن هناك دائمًا من يغذيها لتخدم أهدافه مستخدمة نفس الأساطير عن القومية أو الدين، فتتحول القضايا العادلة إلى أداة ابتزاز وهيمنة وتجارة دماء.

لقد دفعنا ثمنًا باهظًا حين تركنا أبوابنا مشرعة لمن يعتقد أن العالم كله مطالب بأن يخدم أهدافه وأن يسكت على تجاوزاته. حين كانت الأنظمة الديكتاتورية والمليشيات العقائدية تستخدم القضية المركزية لتسويغ الاستبداد وتكميم الأفواه، كانت النتيجة خرابًا مزدوجًا، لا القضية تقدمت، ولا الاوطان نجت من تداعياتها.

اليوم، من يظن أن بإمكانه أن يفرض علينا تكرار ذلك السيناريو المأساوي، فهو واهم. نحن جيل جديد لا يرى في تلك اللافتات المستهلكة أي شرعية. نحن أبناء زمن يقدّس الاختيار الحر ويجرّم الابتزاز الأخلاقي والمادي باسم الدين أو القضية المركزية.

فمن ظن أنه سيخيفنا بخطاب العار والذنب التاريخي، فليأخذ مسافة بعيدة، وسنجعل بيننا وبينه سدًّا لا ينهار، سدًّا من الوعي والسيادة واحترام المصالح الوطنية. لا استعلاء فكري بعد اليوم، ولا تبعية لأوهام الماضي. هنا، حيث نعيش ونحلم، لنا حق القرار، لنا سيادة الفكر والضمير، ولن يجرؤ أحد على مصادرتهما مرة أخرى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.