: آخر تحديث

الوحدة الخليجية بين عقدة الحجم وفلسفة الشراكة 

3
2
2

 

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الإقليمية، لم يعد الحديث عن الوحدة الخليجية ترفًا سياسيًا أو أمنية مؤجَّلة، بل أصبح سؤالًا جوهريًا عن مصير التماسك في بيئة تتقاطع فيها المخاطر وتتشابك فيها الأدوار. فبين دعوات متكررة للاتحاد، وهواجس مزمنة من اختلال الأحجام وتفاوت النفوذ، يجد مجلس التعاون نفسه أمام لحظة اختبار عميقة: هل يمكن لمنظومة إقليمية أن تصوغ مستقبلها المشترك دون أن تُعيد أولًا تعريف علاقتها بذاتها؟ وهل يمكن بناء وحدة حقيقية في ظل تباينات في الرؤية، وتداخل في المبادرات، وتضارب أحيانًا بين الفعل الأحادي ومبدأ الإجماع؟ إن ما يواجه الخليج اليوم ليس فقط تحديًا في الموقف، بل مأزقًا في المفهوم: مفهوم الشراكة، وحدود القرار، وموقع القوة داخل البناء الجماعي.

لكن اللافت أن الخطاب الوحدوي، رغم تكراره، ما زال أسير ثنائية شكلية: الدعوة إلى "اتحاد" يقابلها قلق من "الذوبان"، وشعارات عن "المصير المشترك" تقابلها تحفّظات غير معلنة على حجم الدور الذي يمكن أن تمارسه دولة دون أخرى.

في عمق هذا التردّد لا تكمن أزمة قانونية أو غياب ميثاق واضح، بل تتجلّى معضلة أعمق: هشاشة في الوعي السياسي المشترك، وافتقار إلى تصور فلسفي للدور الجماعي. القانون، في نهاية المطاف، ليس إطارًا محايدًا، بل هو ترجمة لإرادة ومصالح وقوة متكافئة داخل نظام متفق عليه. والمفارقة أن من ينادون أحيانًا بجعل القانون هو الحكم النهائي، يفعلون ذلك من موقع القلق، لا من موقع بناء الثقة، في محاولة لتقييد الفاعلين لا لتنظيم الفاعلية.

الوحدة لا تُبنى بمنطق الخوف من الأكبر، بل بالاعتراف الواقعي بتفاوت الأدوار، دون أن يتحوّل ذلك إلى عقدة. لم يعد ممكنًا التعاطي مع الجغرافيا الخليجية كفضاء سياسي متكافئ عدديًا أو رمزيًا، فالتفاوت في الثقل السياسي، الاقتصادي، والديمغرافي واقع لا يُنفى، بل يُدار. ومن يتعامل مع هذا التفاوت كأداة هيمنة، يَحرِم المجلس من أن تكون هذه القوة نقطة ارتكاز لتصدير الاستقرار وتوسيع المجال التنموي.

لا يشكّل تفاوت الأحجام بين دول مجلس التعاون عائقًا أمام بناء التكامل، ما دامت الأدوار واضحة والمرجعيات مؤسسية. غير أن الإشكال لا يكمن في التفاوت ذاته، بل حين يُساء الاعتراف به، فيُستغل هذا الفارق لتعويضه بممارسات أحادية تتجاوز منطق الشراكة.

ومن هنا يجدر بنا أن نطرح إحدى الفرضيات الجديرة بالنقاش: ما إذا كان اتخاذ إحدى دول المجلس قرارًا منفردًا بالتدخل في أزمة إقليمية، خارج مظلة التوافق الخليجي، وبدون مرجعية قانونية واضحة من مجلس التعاون أو من الشرعية الدولية، قد يؤدي إلى إرباك في الموقف السياسي العام، وربما يثير تساؤلات جوهرية حول مصداقية مفهوم الدفاع المشترك، ومدى صموده كمبدأ فعّال لا مجرد غطاء رمزي، لا سيما إذا ما ترتّب على ذلك ارتداد انتقامي على الدولة المعنية، مقابل عدم مشروعية تدخلها من النواحي القانونية والسياسية، وهو ما قد يضع بقية دول المجلس في حرج بالغ، بين واجب التضامن مع الشقيق الخليجي حين يتعرض لردّ فعل خارجي، وبين الالتزام بمبدأ الشرعية وعدم التورّط في تغطية قرار أحادي لا يستند إلى توافق ولا إلى سند قانوني معتبر.

إذ ما هو مصير منظومة الدفاع المشترك إذا تحوّلت من ردع لاعتداء مشترك إلى ورطة مفتوحة على ارتدادات انتقامية بسبب تدخل خارج التفويض؟ وهل يمكن للوحدة أن تصمد حين يتصرّف بعض أطرافها كفاعل سيادي خارج المنظومة، ثم يعود للمطالبة بالحماية الجماعية عند الردّ؟

هذه ليست أسئلة تقنية، بل إشكالات فلسفية في مفهوم السيادة التشاركية وحدود الفعل المستقل داخل منظومة تكاملية. فالوحدة لا تعني المصادرة على القرار، ولكنها تتطلب نسقًا من الالتزام المتبادل يضبط حدود المبادرة الفردية، ويوفّر إطارًا مشتركًا للفعل الجماعي.

التحفّظات الموروثة عن توازنات عقود سابقة لم تعد قابلة للصمود في وجه منطق السيادة الحديثة، التي لا تعني الانغلاق داخل حدود الدولة، بل المشاركة في بناء إطار سيادي أوسع، يقوم على الكفاءة لا على التماثل. فالهويات السياسية لا تذوب في لحظة تكامل ناجحة، بل تُعاد صياغتها داخل مشروع أشمل، تتفاعل فيه الخصوصيات لا لتتناقض، بل لتتكامل ضمن وعي يتجاوز الخوف إلى القدرة.

لقد أثبتت التجارب أن المواقف الصلبة في لحظات الخطر الوجودي، بُنيت وتحمّلت غالبًا من عاصمة واحدة، لا استعلاءً بل بحكم منطق الجغرافيا وموقع التأثير. قراءة هذا الدور من منطق التهديد بدل منطق المسؤولية تُنتج فراغًا سياسيًا لا يملؤه سوى هشاشة مضادة، تعيق قيام أي كيان مشترك. وهنا تتجلّى الحاجة إلى رؤية استراتيجية تستند إلى فلسفة الدور، لا إلى هندسة الشكوك.

الوحدة لا تأتي نتيجة لتوازنات الخوف، بل كاستجابة لنضج سياسي يعترف بأن ما يهدد دولة واحدة في الخليج لن يتوقف عند حدودها. وكل مشروع تكامل لا يُدار بثقة سيبقى مشلولًا خلف واجهات بروتوكولية. فليس المطلوب اتحادًا رمزيًا يُرضي الحساسيات، بل مشروعًا سياديًا يُنتج قدرة.

ليس في الخليج من يسعى لابتلاع الآخر، لكن استمرار التعامل مع مَن يملك القدرة وكأنه تهديد يضعف الجميع. والواجب اليوم ليس تقنين التوجّس، بل تجاوزه، وتحويله إلى عقد سياسي يُبنى على دور لا يخشى الفارق، بل يوظفه لصالح المنظومة.

إن فلسفة الشراكة لا تنفي الفروق، بل تُعيد تعريفها في ضوء غاية عليا: إنتاج منظومة خليجية قادرة على التحرك كقوة وازنة، ضمن محيط إقليمي يفيض بالاختراقات والتقلّبات. وهذا لا يُنجز بتساوي المواقع، بل بتكاملها. ولا بقانون حيادي، بل بوعي استراتيجي يدرك أن الخطر الحقيقي لا يأتي من الداخل، بل من فشل الداخل في صياغة نفسه كمركز قوة.

في هذه اللحظة المفصلية، ليس المطلوب إعادة إنتاج لغة "الميثاق"، بل إنتاج مشروع. ليس عبر ضبط توازنات القلق، بل بتحرير الطاقات من عقدة الحجم إلى أفق الفعل. فما من دولة كبيرة تطلب الطاعة، وما من دولة صغيرة مهددة بالفناء، بل هناك مستقبل خليجي لا يُكتب إلا حين يعلو منطق السيادة المشتركة على منطق الحذر المتبادل.

إن مستقبل الخليج لا يُصاغ بالنوايا الحسنة وحدها، ولا يُبنى عبر مراعاة الحساسيات أو تدوير المخاوف، بل يحتاج إلى جرأة في الاعتراف بتفاوت الأدوار، وحكمة في تحويل الفارق إلى عنصر قوة، لا سببًا للارتياب. فالوحدة لا تُصان بتماثل المواقع، بل بتكاملها، ولا يحميها القانون إن لم تستند إلى وعي مشترك، يوازن بين السيادة الوطنية والانتماء الكتلي. وما لم تنتقل العقلية الخليجية من إدارة الهواجس إلى صناعة المشروع، ستبقى الوحدة شعارًا جميلًا تعثره حسابات غير معلنة. اللحظة تفرض وضوحًا: إما أن نعيد تعريف الشراكة بوصفها أفقًا لقوة جماعية راشدة، أو نظل نراوح في دائرة ميثاق بلا مضمون، واتحاد بلا فاعلية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.