في أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت في اليابان مَحالُّ تبيع القهوة. كانت جزءاً من موجة تحديثٍ أعقبت إصلاحات الإمبراطور مييجي، لكنَّها لم تلقَ قبولاً يُذكر، وفُسِّر ذلك بأنَّ المشروبَ لم يناسبِ الذوقّ الياباني.
تكرَّرت المحاولة في عشرينات القرن العشرين على يد متعلمين عائدين من أوروبا. ظهرت مقاهٍ ذاتُ أثاثٍ داكنٍ يعجُّ بجلسات نقاشٍ ودخانِ سجائر ورائحةِ بنٍّ. بدا المشهدُ نسخة من المقاهي الباريسية، البن نفسُه، الماكينات نفسها، حتى الأثاث نفسه. ومع ذلك لم تنجحِ التجربة بالشكل المنتظر. ماذا ينقصها؟ الإجابة: رغم كل هذه العناصر لم يتوصل القائمون عليها بعد إلى العنصر الفعال.
في مرحلة لاحقة ظهرت موجة جديدة من المقاهي، يابانية الطابع هذه المرة. تهتم بالخصوصية، وبولع اليابانيين بالدقة - درجة حرارة الماء وتوقيت السكب، وتستخدم فناجينَ خزفيةً من الصناعة المحلية. مع تلك التغييرات انتشرت المقاهي. وأدرك القائمون على التجربة أنَّ العنصر الفعّال في استثمار المقاهي لم يكن القهوة ذاتها – يمكن لأي شخص إعدادها في منزله – ولا نوع الخشب أو تصميم الديكور المستخدم في أوروبا، بل علاقة الجو المحيط بزبون معين. هذا ما يذهب الناس بحثاً عنه.
النجاح لا يتحقّق بجمع العناصر الصحيحة، بل بمعرفة العنصر الذي يجعلها تعمل. البحث عن العنصر الفعّال جوهر أي تجربة ناجحة. من دونه تتحول كبسولة الدواء إلى خليط في غلاف بلاستيكي.
والأمر لا يقتصر على المشاريع الاستثمارية. في تجارب التحول إلى العصر الرقمي رأينا كثيراً من ذلك: صحفاً صنعت منتجاً ورقياً ونشرته على الإنترنت دون أن تغيّر ذهنيتها، أو إدارات رقمنتِ الوثائقَ ولم تتخلّ عن الأختام. النتيجة شكل بلا مضمون، زحام لحاملي الهواتف الذكية في مكاتب السجلات.
التقليد لا يحقق الفاعلية إن عجز عن إدراك الجوهر.
وفي السياسة، حين قفزت دول ما بعد التحرر إلى تبنّي النظام الجمهوري، غاب العنصر الفعّال: التقدّم بين متساوين. أي تكافؤ الفرص، ووجود مراكز نفوذ متعددة ومتوازنة يستطيع كل منها حماية حرياته، ما يمنع احتكار السلطة والثروة معاً. هذا ما أنشأ الحاجة إلى تداول السلطة.
الثورة الفرنسية نفسها، رغم غِنى تراثها الفلسفي والقانوني بمفكرين من أمثال فولتير ومونتسكيو، انتكست محاولتها نقل التجربة الجمهورية الأميركية مرات عدة. لأنَّ الثورة والشعارات الجمهورية من حرية وإخاء ومساواة ليست عنصر التشغيل. العنصر الفعال في الجمهورية الأميركية كان استقلال الأفراد اقتصادياً من خلال حماية التملك، فكان التطور إلى مراكز نفوذ مجتمعية، ومن ثمّ تداول السلطة، نتيجة طبيعية لا شعار ولا أمنية.
بل إنَّ الملكية الدستورية في بريطانيا وهولندا بعد الثورة الفرنسية جعلت البلدين أكثر جمهورية في الجوهر. حيث العنصر الفعال من تعدد مراكز النفوذ وعلياء القانون كان حاضراً. وظلَّتِ الملكية مقاماً سامياً حافظاً لقيم المجتمع من تقلبات السياسة.
ليس هناك نظام مثالي كما لا يوجد دواء مثالي، لكن هناك الأكثر فاعلية من غيره. وفهم العنصر الفعّال هو ما يجعل النظم السياسية تتطوَّر بدل أن تتكرر شكلياً. النظام لا يُقاس بأسمائه، ولا برغباته، بل بقدرة مفرداته على توليد الحركة من داخل نفسه.
القاعدة نفسُها تنطبق على المستوى الشخصي، ننبهر بنجاحات الآخرين فنقلد طقوسهم الخارجية، بينما العنصر الفعّال في نجاحهم غالباً هو ما لا يُرى: قدرتهم على خلق نظام كفء على مقاسهم.
اكتشاف العنصر الفعّال ليس بدَهياً. أحياناً يكون في مكان لا يُتوقع. حين اكتشف ألكسندر فليمنغ البنسلين، لم يكن أول من رأى العفن يقتل البكتيريا، لكنه كان أول من سأل: ماذا فيه يفعل ذلك؟ من ذلك السؤال خرج البنسلين، الدواء الذي غيّر وجه الطب. استخلص فليمنغ العنصر الفعال، فأعفانا من ابتلاع العفن كله في بحث عشوائي عن قاتل البكتيريا.

