سعت العلوم الإنسانية في الفكر الإسلامي دوماً إلى الإجابة عن سؤال مركزي: كيف يمكن بناء معرفة إنسانية تستلهم الهوية الإسلامية وتتفاعل مع التحديات المعاصرة دون أن تذوب في النماذج الغربية؟ هذا السؤال، الذي وُلد في سياق مواجهة الاستعمار في القرن التاسع عشر، تطوّر عبر أجيال من الدعاة، من جمال الدين الأفغاني إلى حسن البنا، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، مرورًا بحركة الصحوة الإسلامية، وصولًا إلى الدعاة الجدد. غير أنّ هذا المشروع ظل عالقًا بين الخطاب التعبوي والرؤية التحليلية، فلم يتحوّل إلى مشروع يدرس الإنسان وظواهره بحياد.
جمال الدين الأفغاني كان أول من أشعل هذه الفكرة. رأى في القرآن محرّكًا للنهوض، وعدّه أداة لإحياء الفكر الإسلامي في وجه التغريب. فالقرآن عنده ليس نصًا تعبديًا فحسب، بل طاقة فكرية تحرّك الوحدة والجهاد. ومع ذلك ظل مشروعه أقرب إلى الخطاب الدعوي منه إلى التأسيس الفكري؛ إذ بقي استخدامه للقرآن عامًا لا يقدّم منهجًا واضحًا لبناء علوم إنسانية تجريبية.
ومع حسن البنا اتخذت الرؤية بعدًا اجتماعيًا وتنظيميًا أوضح؛ إذ جعل القرآن إطارًا شاملًا للحياة ينظم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة. عبر جماعة الإخوان المسلمين قدّم مشروعًا لتربية الفرد المسلم داخل جماعة متماسكة قائمة على الإيمان والعمل الجماعي. غير أن المرجعية القرآنية عنده انحصرت في بعدها التربوي الدعوي، فغلب الطابع الحماسي على التفكير النقدي، مما جعل المشروع وسيلة لتثبيت الجماعة أكثر من كونه أداة لاكتشاف الإنسان وعلومه.
أما أبو الأعلى المودودي وسيد قطب فقد نقلا الفكرة إلى ميدان أيديولوجي واضح؛ رأى المودودي في القرآن أساسًا للحاكمية الإلهية ومصدرًا لتشييد نظام سياسي واقتصادي بديل عن النظم الوضعية، بينما عمّق سيد قطب هذا الاتجاه في كتابيه ظلال القرآن ومعالم في الطريق، حيث جعل من النص القرآني منهاجًا للحاكمية المطلقة في مواجهة ما سمّاه “الجاهلية الحديثة”. في هذا التحول انتقلت الرؤية إلى إعلان القطيعة الحضارية مع الغرب تمامًا، ومن فهم الإنسان في سياقه الكوني إلى محاكمته ضمن ثنائية الإيمان والجاهلية؛ فغدت المعرفة امتدادًا للعقيدة لا ثمرة للبحث والتجربة.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حملت الصحوة الإسلامية هذه الرؤية القطبية السلفية إلى جمهور أوسع؛ فظهرت أطروحات عن “علم نفس إسلامي” و“تربية إسلامية” و“مجتمع إسلامي”، حيث استُخدم القرآن لتأسيس خطاب تعبوي يربط الإيمان بالهوية. لكنها بقيت امتدادًا دعويًا دون منهجية علمية، فأيقظت الأمة كثورة هوية ناقصة: إلهام بلا بديل حضاري.
في الوقت الحاضر يقدّم نايف بن نهار نفسه امتدادًا لهذا المسار. ففي حلقة بودكاست بعنوان «البوصلة القرآنية في تربية النفس» يعرض القرآن بوصفه مرشدًا للتوازن النفسي والسلوكي، مؤكدًا أنه ليس كتابًا للتلاوة فحسب، بل منهج حياة يُترجَم في الممارسة اليومية. يشدّد على التدبّر العملي للنص وربطه بالواقع، غير أن هذا الطرح لا يبتعد جوهريًا عن أطروحات من سبقه؛ إذ يبقي القرآن في موقع المرجعية التي تُحدّد العقل أكثر مما تُفعّله، ويستبقي الخطاب ضمن أفق وعظيّ لا معرفي. وما يقدّمه ليس دعوة جادة إلى الشك بوصفه أداة تفكير نقدي، بل هو مسعى لإعادة تأويل النص داخل حدود الانتماء العقدي أو مقتضيات المصلحة الحزبية والسياسية، كما كان عليه مشروع أسلافه.
لقد تبيّن من خلال هذا المسار أن مشروعهم ظل حبيس الرغبة في الحشد والتعبئة أكثر من انشغاله ببناء منهج علمي؛ فتجديدهم اتجه نحو إحياء الروح الإسلامية لا تحليل الظواهر، ونحو إيقاظ الأمة أكثر من تفكيك بنيتها النفسية والمعرفية. ولعل تجاوز هذا المأزق يبدأ حين تُستعاد العلاقة مع النص بوصفه فضاءً للتأمل وإنتاج المعنى، لا سلطة تُحدّد طرائق التفكير؛ فالهويّة تنمو بالحوار والانفتاح على الآخر، والمعرفة تستعيد دورها حين تعيد اكتشاف الإنسان وتُعينه على فهم ذاته والعالم من حوله. وأفضل مراحل تاريخ هذه الأمة علميًا وثقافيًا تجلّت في العهدين العباسي والأندلسي، حين انفتحت على ثقافات الآخرين، ترجمت كتبهم وتعلّمت لغاتهم، فيما كانت أسوأ مراحلها حين أُوصدت الأبواب أمام العقل والتجربة.


