: آخر تحديث

العلاقة بين السياسة وطاولة الطعام

2
1
2

عبدالرحمن الحبيب

«قبل كل شيء آخر، الشعب يريد الطعام»، هذا ما يقوله المثل الصيني الشهير من قبل ألفي عام، لكن ذلك ليس اكتشافاً فهو معروف، والطعام لا يمكن فصله عن السياسة، بل أنه كما قال أنتوني بوردان «لا شيء سياسي أكثر من الطعام»، وهو طاهٍ (شيف) ومؤلف أمريكي معروف بأنه يجوب العالم بحثاً عن أصناف الطعام وابتكارات الطبخ؛ إنما السؤال عن علاقة مائدة الطعام وأجوائها بالسياسة؟ وهل السياسة مكانها على طاولة العشاء؟ وهل يؤثر نوع الطعام وطريقة إعداده في السياسة؟

في فرنسا يُعرض حالياً مسلسل «كاريم» مسلطاً الضوء على شخصية تاريخية، وهو طبَّاخ الملوك ماري أنطوان كاريم كأحد مُؤسسي فنّ الطهي الراقي، والمعروف بابتكاراته في عالم الطبخ؛ ليس هذا فحسب بل عمل أيضًا جاسوساً في العصر النابليوني، ويستكشف المسلسل تأثيره في كل من المطبخ وعالم السياسة مقدِماً للجمهور الدولي ما يريده: طعام دسم، قاعات الولائم ومغامرات شيّقة ونابليون، محولاً فن الطبخ إلى فن سياسي. كاريم لُقِب بـ»أول طاهٍ مشهور» واستخدم اللقب في عنوان كتاب إيان كيلي الوثائقي عام 2004 بعنوان «الطبخ للملوك: حياة أنطوان كاريم، أول طاهٍ مشهور»، والذي استُوحى منه المسلسل عنوانه.

متزامناً مع عصر نابليون أصدر السياسي والمحامي بريلا سافارين كتابه الذي لا يزال يطبع كل سنة في فرنسا بعنوان «فسيولوجيا التذوق: أو تأملات في فن الطهي المتسامي»، متضمناً حرفة وعلم الطبخ وفن الأكل؛ مع مقولته الشهيرة: «قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت»، وكان يؤمن بأن الطعام يُعرّف الأمة.

أما بوردان المذكور بالمقدمة فسبق أن أصدر كتاباً وثائقياً بعنوان WASTED حول هدر الطعام وسياسات الغذاء في عهد ترامب، ولماذا تُعتبر حقيقة إهدار ثلث طعام العالم إحدى أكبر «خطايا» القرن الحادي والعشرين. القسم الافتتاحي في الكتاب بعنوان «أمثال شعبية»، يتألف من عشرين مقولة قصيرة حول مواضيع تذوق الطعام، مثل «الحيوانات تقتات، والإنسان يأكل، والعاقل وحده يعرف كيف يأكل» و»ملذات المائدة تخص كل زمان ومكان، ولكل بلد وكل يوم؛ إنها ترافق ملذاتنا الأخرى، وتدوم أطول منها، وتبقى لتعزينا عن فقدانها».

إذن، ما هي العلاقة بين السياسة وطاولة الطعام؟ يقال إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستطيع إبرام صفقات عشاء دون مغادرة المنزل، ويمكن للولايات المتحدة أن تقود الطريق في مجال دبلوماسية الطهي مثل منتجع ترامب الفخم «مار-أ-لاغو» في فلوريدا، حسبما كتبت جوهانا فورمان (فورين بولسي) موضحة أنه مع عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، لا تنخدعوا بولعه بالوجبات السريعة، فخلال ولايته الأولى، بينما كان نادرًا ما يتناول الطعام في الخارج، كان يتناوله في مطاعم شرائح اللحم الفاخرة مثل BLT Prime في فندقه بواشنطن، أو 21 Club في نيويورك.

علاقة ترامب بمائدة العشاء علاقة معاملاتية وسياسية في آنٍ واحد، فهي مكان لعقد الصفقات، سواء مع القوى الأجنبية أو المانحين المحليين فخلال فترة رئاسته الأولى، زار ترامب منتجع مار-آ-لاغو بشكل متكرر وعقد اجتماعات هناك مع قادة دوليين، بمن فيهم رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي والرئيس الصيني شي جين بينغ. يبدو أن الطعام ساعد ترامب على الفوز بالأصوات، فمن الأيرلنديين إلى الإيطاليين والصينيين، لطالما استُخدم الطعام لتحديد من هو «أمريكي حقيقي» ومن ليس كذلك وفقا لما كتبه فابيو باراسيكولي، بروفيسور دراسات الأغذية في جامعة نيويورك، ذاكراً إن مائدة الطعام تُوحّد وتُفرّق، وخاصةً مسألة ما نأكله وكيف نأكله. لذلك، ليس من المُستغرب أن يستخدم السياسيون الطعام في كثير من الأحيان كقضية خلافية لفرض أجنداتهم الأيديولوجية وتحديد من ينتمي إلى مجموعة ومن لا ينتمي إليها.

سبق أن أثارت عاصفة سياسية ادعاء الرئيس الأمريكي ترامب خلال مناظرة رئاسية بأنه «في سبرينغفيلد، يأكلون الكلاب. الناس الذين قدموا. يأكلون القطط»، قلبت الحياة رأسًا على عقب في تلك البلدة الصغيرة في أوهايو، وخاصةً بالنسبة لسكانها المهاجرين الهايتيين. اتُهم اللاجئون الوافدون حديثًا بأكل حيوانات جيرانهم الأليفة، مما أدى إلى تهديدات بالقنابل في المدارس المحلية وتعليق الدراسة الحضورية في الجامعات القريبة حسبما ذكر باراسيكولي. كذلك فإن نوعية الطعام يمكن أن تكون قوة ناعمة للدول، مثل حساء الزلابية التايوانية المشهورة من مطاعم دين تاي فونغ التي لها أكثر من 165 فرعا حول العالم، وتحولت إلى رمز عالمي قوي لتايوان، في وقتٍ تحتاج فيه الجزيرة إليه بشدة، كما كتب ريشي لينجار (فورين بولسي).

يقول لينجار: على مستوى الشارع، يبدو أحد أشهر مطاعم مدينة نيويورك الجديدة لعام 2024 متواضعًا نسبيًا: صندوق ذهبي بواجهة زجاجية يرتفع من الرصيف عند زاوية شارع 51 وبرودواي، مزين بثلاث كلمات حمراء باللغتين الإنجليزية والصينية: دين تاي فونغ، ومع ذلك، ادخل وانزل الدرج، وستجده واسعًا، يتسع لحوالي 500 شخص يتمتع العديد منهم بإطلالة مباشرة على عملية صنع زلابية المطعم الشهيرة من خلال نافذة زجاجية عملاقة تؤدي إلى المطبخ.

إذا كان نوع الطعام في المطاعم يشكل هوية وقوة ناعمة لبلد المنشأ، فإنه في مأدبة الملوك والرؤساء يشكل جزءاً أساسياً من الدبلوماسية والرسائل المبطنة بين الدول.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد