بدأ الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، جولةً آسيويةً تشمل اليابانَ وكوريا الجنوبية وماليزيا، وتتضمَّن لقاءً مع الرئيس الصيني، شي جينبينغ، في كوريا، في محاولةٍ لإعادة ضبط إيقاع العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة وحلفائها في آسيا، خصوصاً مع الصين. خلف هذا الحَراكِ الدبلوماسي يختبئ مشهدٌ عالميٌّ جديدٌ لا يمكن وصفُه بالحرب الباردة ولا بالسلم الحقيقي، بل بما يمكن تسميته «السِّلم الساخن»: حالة من التعايش المتوتر بين القوى الكبرى، تتخللها صراعاتٌ اقتصادية وتكنولوجية وسيبرانية، من دون أن تنفجر في شكل مواجهة عسكرية مباشرة.
في القرن العشرين، مثّلتِ الحربُ الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي صراعاً آيديولوجياً بين نظامين متقابلين. كان العالم يومها مقسوماً إلى معسكرين، يفصل بينهما جدار حديدي من القطيعة الكاملة. أما اليوم، فإنّ المشهد مختلف كلياً: لم تعد الآيديولوجيا هي المحرك، بل الاقتصاد والتكنولوجيا وسلاسل التوريد.
جعلت العولمةُ الخصوم متشابكي المصالح إلى حدٍ يجعل الحرب الشاملة انتحاراً للطرفين. ومع ذلك، فإنّ التنافس على النفوذ، وعلى من يقود الثورة التكنولوجية المقبلة يُبقي درجة الحرارة مرتفعة دوماً.
في هذا السياق، يُمكن تعريف «السِّلم الساخن» بأنه سلام متوتر، هشّ، ومشحون بالمنافسة؛ تتوقف فيه المدافع، لكن تستمر فيه المواجهة عبر أدوات أخرى: الرسوم الجمركية، والعقوبات الاقتصادية، والتجسس الإلكتروني، وحروب الرقائق والمعادن النادرة.
تُجَسِّد العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تماماً هذا النوع من السلام المتوتر. فهما شريكان اقتصاديان لا يمكن لأي منهما الاستغناء عن الآخر، لكنهما في الوقت نفسه خصمان استراتيجيان في سباق الهيمنة على القرن الحادي والعشرين.
منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض مطلع 2025، جعل من تقليص الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية هدفاً مركزياً لسياسته الاقتصادية. هكذا فرضت واشنطن قيوداً على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة، وشدّدت الخناق على شركات التكنولوجيا الصينية مثل «هواوي» و«تيك توك»، ودفعت حلفاءها في اليابان وكوريا وتايوان إلى فعل المثل.
أما بكين، فاختارت الرد بطريقة ذكية ومدروسة: تعزيز الاكتفاء الذاتي، والاستثمار في الصناعات المحلية، واستخدام المعادن النادرة - التي تهيمن على نحو 70 في المائة من إنتاجها العالمي (بما في ذلك تكنولوجيا تخصيبها) - ورقةَ ضغط في المفاوضات التجارية والسياسية.
تسعى واشنطن إلى بناء جبهة آسيوية مضادة للصين من خلال تحالفات جديدة مثل «أوكوس» (مع بريطانيا وأستراليا) و«كواد» (مع اليابان والهند وأستراليا). وهي سياسة تذكّر بمسلسل احتواء الاتحاد السوفياتي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية وبلغ ذروته في الخمسينات من القرن الماضي. أما الصين، فتردّ عبر توسيع نفوذها في بحر الصين الجنوبي، وتعزيز حضورها في أفريقيا وأميركا اللاتينية، واستقطاب دول الجنوب العالمي ضمن مبادرة «الحزام والطريق».
هكذا تتحوَّل منطقة المحيطين الهندي والهادئ مسرحاً رئيسياً لـ«السِّلم الساخن»: لا حرب معلنة، لكنْ سباق تسلح وتفوّق تكنولوجي واقتصادي يزداد حدة يوماً بعد يوم.
في عالم اليوم، لم تعد السيطرة على الأرض أو الموارد الطبيعية هي المقياس الوحيد للقوة، بل التحكم في البيانات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ولهذا أصبحت الرقائق الإلكترونية أشبه بـ«النفط الجديد». كل دولة تحاول تأمين سلاسل الإمداد الخاصة بها، خوفاً من الانقطاع أو الابتزاز. الشركات التايوانية واليابانية والكورية أصبحت مراكز نفوذ جيوسياسي بقدر ما أنها كيانات اقتصادية.
في المقابل، تحاول الصين كسر الاحتكار الغربي لهذه التقنيات من خلال الاستثمار الضخم في الابتكار المحلي، بينما تسعى أميركا إلى الحفاظ على تفوقها عبر التحالفات التكنولوجية وتمويل الأبحاث الاستراتيجية.
ورغم أن العلاقات الدبلوماسية مستمرة بين واشنطن وبكين، فإنّ الثقة تكاد تكون معدومة. فكل تصريح، وكل خطوة، وكل قمة بين الجانبين، تُقرأ على أنها مناورة في معركة نفوذ طويلة الأمد. ومع ذلك، يدرك الطرفان أن الانفصال الكامل مستحيل. فاقتصاداهما متداخلان إلى درجة أن أي قطيعة ستكون مدمّرة لهما معاً وللاقتصاد العالمي. ولهذا يختاران الاستمرار في هذا الشكل من السلام المشوب بالتوجّس: يتعاونان في التجارة، ويتصارعان في التكنولوجيا، ويتبادلان الاتهامات في السياسة والفضاء السيبراني.
«السِّلم الساخن» ليس مجرد وصف للعلاقات الأميركية - الصينية، بل عنوانٌ لمرحلةٍ عالمية جديدة. إنه واقع متعدد الأقطاب تتحرك فيه روسيا وتركيا والهند وأوروبا بين التنافس والتعاون. لم تعد القوة العسكرية وحدها هي العامل المحدِّد، بل القدرة على التحكم في المعرفة، والموارد الرقمية، وسلاسل القيمة العالمية.
وفي هذا الإطار، تمثل جولة ترمب الآسيوية أكثر من حدث دبلوماسي؛ إنها إعلان عن ميلاد نظام دولي جديد تحكمه المصالح المتشابكة والتنافس الدائم تحت سقف السلام.
عصرٌ بلا حرب باردة، لكنه أيضاً دون سلام بارد.
إنه عصر «السِّلم الساخن»؛ زمن الحروب التي لا تُطلق فيها النار، بل تُخاض بالبيانات والرسوم والتكنولوجيا.

