لم تكن حرب الـ 12 يومًا بين إسرائيل وإيران أول اختبار لقوة وتماسك ولحمة المنظومة الخليجية، فقد مرّت بالعديد من الاختبارات، ابتداءً من أزمة التأسيس عام 1982، ومرورًا بحربي الخليج الأولى والثانية، واحتلال الكويت، ومحاولة زعزعة الأمن في البحرين، واحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، والمشاركة في التحالف الدولي لدعم الشرعية في اليمن، وما تعرّضت له المملكة من استهدافات حوثية، وما تعرّضت له الأراضي الفلسطينية من حرب إبادة وتهجير، إلى غيرها من الأزمات في سوريا ولبنان والسودان وليبيا، والحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال تستعر.
كل هذه الأزمات كانت المنظومة الخليجية حاضرة فيها بحكمة وحنكة قادتها المعروفة في التعاطي مع الأزمات بأسلوب دبلوماسي حكيم، ينطلق من عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم السماح لأي دولة بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، والانتقال من مرحلة الحياد الإيجابي في الأزمات إلى مرحلة الوسيط الموثوق، الذي جعلها تعمل لإطفاء الصراعات وتجنيب العالم الأزمات الاقتصادية بعدم تسييس ملف الطاقة، والعمل وفق القوانين الدولية والمعاهدات الأممية لتجنّب الأزمات من خلال دبلوماسية الأمن والسلام التي تتبناها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
وقد قدّمت المملكة العربية السعودية أنموذجًا عالميًا في إدارة الأزمات والصراعات من خلال الاستثمار في توطيد الأمن والسلام، وبناء تحالفات السلام الدولية كما حدث في أزمة غزة، عندما نجحت الرياض في قيام التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين، ونجحت السعودية عبر سياسة الاحتواء التي قادها سمو ولي العهد - حفظه الله - من خلال لقاءاته واتصالاته بقادة الدول الكبرى والفاعلة في الشرق والغرب، لإيجاد قناعة دولية بأن معسكر الأمن والسلام الذي تسعى السعودية لتحقيقه قد تفوّق على معسكر الحرب الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته المتطرفة. وقد رأينا عندما اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معسكر الأمن والسلام بزيارته للرياض وعدد من دول الخليج، متجاهلًا معسكر الحرب في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط.
واستمرت سياسة الحكمة بعد انطلاق الحرب الإسرائيلية على إيران بقرار انفرادي دون غطاء أو شرعية دولية، تبادل فيها الطرفان الضربات الجوية والصاروخية، ونتج عنها خسائر فادحة للطرفين، ووصلت لنهايتها بعد الضربات الأمريكية على مفاعل نطنز وفرودو وأصفهان، حيث شكّلت هذه الضربات نهاية المواجهة، وإن كانت إيران قد استهدفت قاعدة العديد في قطر كرد فعل لحفظ ماء الوجه، إلا أنها لم تُحدث أي أضرار في القاعدة، وأعلن ترامب بعدها وقف الحرب والاتفاق على وقف إطلاق النار.
وقد أعلنت دول الخليج مجتمعة وقوفها التام مع دولة قطر ومساندتها في مواجهة هذا الاعتداء والخرق السافر لسيادة دولة عضو في مجلس التعاون، وعبّرت جميع دول المجلس عن مساندة قطر في الدفاع عن سيادتها واستقلالها ضد العدوان الإيراني.
ولذا نرى أنه كما أدانت دول المجلس إسرائيل في عدوانها السافر على إيران، أدانت العدوان السافر على قطر من خلال بيانات قوية وواضحة صدرت من دول المجلس. وتم عقد اجتماع طارئ في الدوحة برئاسة دولة الكويت، الرئيس الحالي للدورة الخليجية، عبّر فيه المجلس عن شجبه للاعتداء الإيراني على قطر، وأكّد على دعمه ووقوفه الدائم مع الشقيقة قطر، ودعوة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للاضطلاع بمسؤولياته ضد الاعتداء على سيادة الدول، مما يقوّض الأمن والسلم العالميين.
من هذا، يتضح الموقف الخليجي من الأزمات والصراعات الدولية، وهو موقف ثابت يعتمد على دبلوماسية الأمن والسلام، والسعي لإنهاء الصراع، مع التأكيد على عدم السماح باستخدام أراضي أو أجواء دول المجلس لشنّ أي عدوان على أي دولة أخرى. وقد حظي هذا الموقف الثابت بشكر وإشادة العالم، وشكر وإشادة القادة الإيرانيين، وعلى رأسهم الرئيس الإيراني السيد بزيشيكيان، الذي اتصل بسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - وعبّر عن شكر إيران على موقف المملكة الداعم لإيران ضد الاعتداء الإسرائيلي، وجهود سموه مع قادة العالم لوقف العدوان الإسرائيلي، وعبّر عن امتنان إيران للمملكة، ملكًا وحكومة وشعبًا، للموقف الإنساني الذي وجّه به خادم الحرمين الشريفين باستضافة الحجاج الإيرانيين البالغ عددهم 76 ألف حاج، وتوفير كل الاحتياجات حتى وقت مغادرتهم، وفتح المطارات الإيرانية. كما شكر الرئيس الإيراني قادة دول المجلس على موقفهم الثابت والداعم للسلام.
د. أحمد بن حسن الشهري
الكاتب والباحث في العلاقات الدولية