تركت التصريحات المتلاحقة للمبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان، طوم باراك، اللبنانيين في حيرة من أمرهم، فجمهور "المحور" تنفس الصعداء يوم السابع من تموز، قبل أن يعود ليجد نفسه أمام واقع الانضواء في بلاد الشام يوم الثاني عشر منه.
وبلا أدنى شك، فقد ساهم التصريح الأخير للمبعوث الأميركي، الذي حذّر فيه من أن لبنان يواجه تهديدًا وجوديًا، وإذا لم يتحرك فقد يعود إلى "بلاد الشام" مرة أخرى، في بث القلق، ليس فقط ضمن صفوف أنصار حزب الله، وإنما لدى سائر عموم اللبنانيين؛ فذِكر بلاد الشام يعني العودة إلى فترة الوصاية السورية التي خرجت من الباب عام 2005، فهل يهدد باراك بإعادتها من الشباك في 2025؟
المبعوث اللبناني الأصل، ربط بين عودة لبنان إلى نطاق بلاد الشام وبين ضرورة التحرك السريع ومعالجة مخزون سلاح حزب الله كي لا يُواجه خطر الوقوع في قبضة القوى الإقليمية، وأن بلاد الأرز بحاجة إلى حل هذه القضية، وإلا فقد تواجه تهديدًا وجوديًا. تصريحات باراك فُسّرت لبنانيًا بأنها تهديد بشبح عودة النفوذ السوري، والأخطر أن هذا التفسير صبّ في صالح حزب الله، بحيث إن جزءًا كبيرًا من اللبنانيين الذين يطالبون على الدوام بضرورة تسليم الحزب لسلاحه، شعروا بأن خطرًا أكبر يتهددهم، وبالتالي فإن المرحلة المقبلة قد تطلب غضّ النظر عن موضوع سلاح الحزب الذي قد يصبح حاجة لمواجهة ما يعتبرونه اندفاعة سورية باتجاههم.
ومما رفع منسوب المخاوف اللبنانية، إغداق مبعوث الرئيس الأميركي عبارات الثناء على الحكم السوري الجديد، ورئيسه أحمد الشرع، بشكل يومي، وصولًا إلى حد اعتبار الأخير كجورج واشنطن، لتصويره قائدًا محررًا لبلاده تمامًا كما الجنرال الأميركي.
لكن تفاقم الأمور بهذا الشكل لا يتحمّل مسؤوليته طوم باراك، بل الدولة اللبنانية عبر سلطاتها المتعاقبة، والرافضة للعب دورها منذ اتفاق الطائف تحت شعارات أثبت الزمن والتجارب بطلانها؛ فقبل أن يُوجَّه اللوم إلى المبعوث الأميركي، وجب الوقوف عند المسؤوليات التي ترفض الدولة تحملها، ففي العادة تعمل أي حكومة / سلطة على بسط سيادتها على كامل أراضيها، وحصر السلاح بقواها الأمنية والعسكرية، إلا في لبنان، حيث تقوم السلطات برمي المسؤولية على ظروف خارجية، وبدلًا من أن يكون الالتزام عنوانًا لها، يجري الجنوح نحو التقليد اللبناني القائم على المماطلة والتسويف.
القراءات السياسية الخاطئة المستمرة للمسؤولين اللبنانيين هي من تُشكّل الخطر الأكبر على لبنان، لا تصريحات المندوبين والمبعوثين والسفراء، وآخر قراءة خاطئة كانت في السابع من يوليو / تموز، عندما ظن الحكم الجديد في بيروت أن أميركا ستتجاوز مطلب تحمّل الدولة لمسؤولياتها وتسليم سلاح حزب الله، بعدما سمعوا من المبعوث الأميركي أن الرد اللبناني على طلبات واشنطن كان رائعًا، وأن موضوع حزب الله شأن داخلي، وأن لا مدة زمنية مطلوب تقديمها لتسليم سلاحه.
في الواقع، تشعر أميركا ومعها الدول العربية والغربية أن لبنان الرسمي يلعب دائمًا على عامل الوقت، ويعوّل على ظهور أزمات في العالم تُبعد ملفاته المتراكمة عن الأضواء، وهكذا دواليك. غير أن المرحلة الحالية ستكون حاسمة؛ فإما دولة تفرض سلطتها وهيبتها، وتمنع عن شعبها أن يكون رهينة لدى دمشق أو غيرها، وتنحو باتجاه اتخاذ خطوات جريئة وشجاعة، وتتجه للسلام كي لا يهددها أحد بتسريبات عن إقفال معابر حدودية، والتضييق عليها، وإرغامها على تجاوز سلطاتها القضائية وسيادتها، وإما البقاء في دوامة التبعية والاستجداء.