محمد بن عيسى الكنعان
منذ سقوط نظام الأسد ومحافظة السويداء السورية ذات الأغلبية الدرزية تُشكل قلقًا لاستقرار سوريا، والسبب الامتداد الجغرافي لهذه الطائفة في دولتين عربيتين؛ حيث تأثير قيادات درزية في فلسطين المحتلة (إسرائيل)، ولبنان على المزاج العام في محافظة السويداء. والأمر الآخر -وهو الأهم- أن القيادة الروحية للطائفة الدرزية السورية في السويداء انقسمت بين ثلاث شخصيات بارزة من شيوخ العقل، وهم: حمود يحيى الحناوي، المولود عام 1943م، وهو أستاذ لغة سابق، وعمل بدولة الإمارات العربية المتحدة مدرسًا ومدققًا لغويًا بإحدى المطبوعات الصحافية، وبعد وفاة أخيه شبلي عاد إلى سوريا لاستلام المشيخة، ونفوذه يتمحور في قرية (سهوة البلاطة)، وقد كان من مؤيدي الحراك الشعبي ضد نظام بشار خلال السنوات الأخيرة للثورة. الثاني هو حكمت سلمان الهجري، المولود عام 1965م في فنزويلا حيث كان يعمل والده، وقد عاد إلى سوريا عام 1985م لدراسة الحقوق بدمشق، وبعد وفاة شقيقه أحمد الهجري عام 2012م الذي مات إثر حادث مروري غامض، حيث تتجه أصابع الاتهام إلى نظام بشار الأسد تولى حكمت المشيخة؛ حيث يبسط نفوذه في بلدة (دار قنوات) وجزء من السويداء، كان من مؤيدي بشار لكن تغير موقفه نوعًا ما عام 2021م بعد تعرضه لإهانة الأمن التابع لبشار. أما شيخ العقل الثالث فهو يوسف جربوع، الذي ينتمي لعائلة عريقة بالمشيخة الدرزية لثلاثة قرون متتالية، ولد عام 1970م، وقد تقلد المشيخة بعد وفاة ابن عمه حسين جربوع عام 2012م، ونفوذه واضح في مدينة السويداء ومحيطها، يتميز بموقفه المحايد من الثورة السورية، فقد كان ضد الحراك الدرزي ضد نظام بشار الأسد، لكنه لم يبدِ اعتراضًا ضد الثورة أو إدارة أحمد الشرع، ويشدد دومًا على الحوار.
من بين شيوخ العقل الثلاثة نجح حكمت الهجري في تصدر المشهد الدرزي بمحافظة السويداء خلال الشهور الأخيرة للثورة من بعد سقوط نظام بشار، وبالذات في أحداث المحافظة يوليو الماضي، وذلك بدعمه للمجلس العسكري فيها، وعلاقته بالكيان الصهيوني عن طريق موفق طريف شيخ العقل هناك، خاصةً في ظل مرض الشيخ الحناوي، وحيادية الشيخ جربوع، وافتقار ليث البلعوس للدعم الكامل من قبل الدروز، على الرغم من أن البلعوس يعد شخصية اجتماعية عامة وبارزة، وأحد أهم قيادات فصيل (رجال الكرامة)، الذي أسسه والده الشيخ وحيد البلعوس، زعيم انتفاضة السويداء ضد النظام السوري عام 2015م. ونجاح الهجري جاء من لعبه على وتر الطائفية بين أهل السويداء، وتصوير المظلومية لدى طوائف المجتمع السوري، لذا هو ميكافيلي السياسة، الغاية عنده تبرر الوسيلة، لذلك استنجد بالكيان الصهيوني ضد قوات بلده حتى لو وُصف بـ(العميل)، وكان السبب الرئيس في اندلاع أحداث السويداء على حساب دم الدروز أنفسهم، وهو ضد الإدارة السورية الجديدة، وطالما دعا إلى انفصال السويداء بإدارة مستقلة (فيدرالية)، كما ينتهج أسلوباً مراوغاً أمام الرأي العام، فيعقد الاتفاق مع ممثلي حكومة دمشق ثم يغدر، ويعلن أمام أتباعه أنه أجُبر على هذا الاتفاق ليبرر موقفه.
من يتمعن في مواقف الهجري وتصريحاته يجده يسعى إلى استنساخ تجربة (حزب الله) في سوريا، حيث يمارس ذات السياسة التي يمارسها حزب الله في لبنان، فكما أن قادة (حزب الله) يتحججون بالمقاومة للمحافظة على السلاح، وبالتالي استقلالية القرار عن الحكومة اللبنانية، فإن الهجري يزعم أنه مع الحوار، ولكنه يرفض تسليم سلاح المجلس العسكري وانضمام أتباعه إلى قوات الأمن والدفاع السوري بحجة الخوف على أمن السويداء واستقرارها من وقوع أعمال انتقامية ومصادرة الأموال والممتلكات من قبل الفصائل المنضوية ضمن الجيش السوري، لهذا يُفضل بقاء (المجلس العسكري) التابع له بقواته وسلاحه ليكون قراراً مستقلًا. غير أن أحداث السويداء المتتابعة بعد انتفاضة العشائر العربية كشفت – وما زالت تكشف - أن حكمت الهجري فعليًا يهدف إلى خلق واقع جديد بجنوب سوريا، كما فعل (حزب الله) بجنوب لبنان، وتحقيق نموذج عسكري مشابهة لـ(حزب الله) من حيث الاحتفاظ بالسلاح، والاستقواء بإسرائيل كما يستوقي الحزب بإيران، كما يُتهم أتباعه بتجارة الكبتاجون كما يفعل (حزب الله)، وفعلها ماهر الأسد، وإيواء كثير من رموز نظام بشار من عسكريين وقادة أمن واستخبارات، الذين بدأت تظهر صورهم وأسماؤهم برعاية الهجري تحت ما يسمى (اللجنة القانونية)، وذلك بتعيين بعض منهم في مراكز أمنية داخل السويداء، ثم كانت الفضيحة الكبرى بالمشاركة فيما يسمى مؤتمر وحدة مكونات شرق شمال سوريا، الذي عُقد بالحسكة، برعاية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتنسيقها، ومشاركة فاعلة من الشيخ حكمت الهجري ممثل الدروز، والشيخ غزال غزال رئيس المجلس العلوي لهدف تأسيس دولة علمانية فيدرالية غير مركزية، ورفض الحكومة القائمة. كل ذلك يعني أن حكمت الهجري يحاول تكريس وجود ميليشيا عسكرية غير شرعية خارج إطار الدولة الشرعية، وهذه بالتالي ستقود سوريا إلى التمزق والتناحر السياسي وتوقف عجلة التنمية كما هو حادث في لبنان.