: آخر تحديث

نحو استعادة لبنان الكبير؟

0
0
0

مطلع عام 1965، في عزّ زمن الازدهار اللبناني، نشأت «حركة فتح» برئاسة ياسر عرفات. حاولت الدخول إلى «دول الطوق»، مصر وسوريا والأردن ولبنان، لتطلق منها العمل الفدائي، فتمّ صدّها بشدة. لكنها استطاعت التسرّب إلى لبنان من نافذة حرّياته. لم تدرك دولة لبنان ولا معظم شعبه في حينه أنه، مع هذا الدخول، انتهت مرحلة كاملة من تاريخ «لبنان الكبير» وبدأت أخرى. باشرت «فتح» عملياتها الفدائية ضد الإسرائيليين في العالم، معلنة انطلاقها من لبنان، وبدأت إسرائيل الردّ عليها في الداخل اللبناني.

وبعد سنوات قليلة، أواخر عام 1969، وتحت ضغط التحركات الفلسطينية المدعومة من الفئات اللبنانية الحليفة، استطاع جمال عبد الناصر وياسر عرفات فرض «اتفاق القاهرة» على لبنان، الذي تخلّى عن سيادته الفعلية على منطقة بحدوده الجنوبية، أضحت هي «فتح لاند»، باتت ساحة مفتوحة للمواجهة الفلسطينية مع إسرائيل.

من غرائب التاريخ في موضوع «العمى الجماعي» أن الدولة اللبنانية لم تدرك وكذلك معظم الشعب اللبناني في حينه خطورة ما جرى. وحدها قلة ضئيلة جداً، على رأسها ريمون إده، كانت هي المدركة الرائية. لكن صوت «العميد» كان كصوتٍ صارخٍ في الصحراء. كانت الدولة ومعظم الشعب واثقين من قوة لبنان الراسخة في المنطقة، كجبل لا تهزّه ريح، لبنان الازدهار الاقتصادي والمالي، والإشعاع الجامعي والثقافي والفني والإعلامي والطباعي، والريادة الاستشفائية والسياحية، ونمط الحياة الفريد، وواحة الحرّيات، وملجأ المعارضين العرب، ومعقل العلاقات الدولية القوية، ومثار إعجاب العالم أجمع، و«منارة الشرق»... فهل يمكن أن يؤثّر فيه «اتفاق محدود» على تخومه الجنوبية؟

كان الشعور قويّاً بأن لبنان «جبل لا تهزّه ريح»، وكان وهماً بحتاً. وذلك التناقض بين عمى الدولة والمجتمع من جهة، ورؤية الفرد الواحد من جهة أخرى، يطرح تساؤلات كثيرة حول قيمة الرأي العام، خصوصاً في بعض المراحل التحولية المهتزة. في روسيا القيصرية المأزومة أواخر القرن التاسع عشر، يقول دوستويفسكي في مطلع رواية «الإخوة كرامازوف»، إنه «من الغريب في زمن مثل زمننا أن نطالب الناس بالوضوح». وهكذا، كان «اتفاق القاهرة» سهماً سامّاً أصاب «كعب أخيل» اللبناني، وقاد بلاد الأرز شيئاً فشيئاً إلى الخراب. مرّة أخرى، كان الواقع أقل قوة بكثير مما يوحي به. في عز زمن الازدهار، اتسعت النشاطات الفلسطينية المسلّحة في الداخل، والتقت مع القوى «الوطنية» (اليسارية) و«الإسلامية» الهادفة للإطاحة بالصيغة اللبنانية، وارتفع شعار «طريق القدس تمرّ بجونية»، بينما كانت القوى الكيانية اللبنانية تتسلّح وتستعد للمواجهة، وصولاً إلى انفجار 1975 الذي أدخل البلاد في نفق طويل مظلم لم تخرج منه بعد.

56 عاماً على لوثة «اتفاق القاهرة» لم يتجاوزها لبنان حتى اليوم. صراعات داخلية دموية، ووصاية سورية شديدة الوطأة بمباركة غربية وإقليمية، وحروب واحتلالات إسرائيلية متكرّرة انتهت بإخراج «منظمة التحرير الفلسطينية» من لبنان وإقامة الشريط الحدودي جنوباً. رافقت ذلك كله موجات هجرة كثيفة إلى الخارج، وتهجير داخلي قسري واسع، ولاحقاً، عمليات تجنيس عشوائية كبرى لضرب النسيج اللبناني، وفصول متوالية من الاغتيالات والتفجيرات. وسقط خلال 15 عاماً من الحروب حتى «اتفاق الطائف» 130 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوّق، و17 ألف مفقود، ودمارهائل وخسائر مادية بلا حدود.

ثم حلّ زمن المحور الإيراني، إذ وجد نظام «الثورة الإسلامية»، المتحالف مع سوريا الأسد، في لبنان مرتعاً خصباً لمخطّطه التوسّعي في دول المنطقة، بإقامة تنظيمات مسلحة داخل الجماعات المذهبية المتعاطفة معه، تحت شعار «تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل». هكذا، على مدى 43 عاماً، نشأت وترسّخت دولة المحور الإيراني داخل «لبنان الكبير». كان يفترض أن تنتهي أعمال المقاومة عام 2000، وأن يغادر الجيش السوري لبنان، مع الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب من دون قيد أو شرط، والمطالبة بالعودة إلى اتفاقية هدنة 1949. لو حدث ذلك لينهض لبنان من كبوته من حينه، ولم يكن ضاع على «بلاد الأرز» ربع قرن من المتاهات. لكن الأولوية الفعلية لم تكن للانسحاب الإسرائيلي، ولا لنهوض لبنان، بل لتمركز المحور الإيراني على حدود فلسطين وفي المتوسط الشرقي، خدمة لمخططه الاستراتيجي الأوسع، وصولاً إلى كارثة «حرب الإسناد» وما تلاها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد