يسميها جدّي، مازحاً، الخوارج. الفترات المفاجئة التي تخرج عن نظام الفصول والتزام الطبيعة، كأن يظهر حرّ شديد في الشتاء، أو يهطل مطر هائل كالجدران في الصيف. قليل ما يحدث ذلك. وعندما نطلع معاً إلى الكروم لا نحمل من سبل الحماية سوى قبعة القش. ويفرح جدي فرحاً شديداً بقبعته العريضة، التي تذكّره بسنوات غربته في المكسيك. أحب جدي مغترباته حباً كثيراً. وروى ذكرياته عنها في ودّ شديد وفرح واضح. وكانت كلها ذكريات متواضعة، وبلا أحداث. وربما أخفى منها ما له علاقة بالنساء ذوات الشعر الفاحم في قرى المكسيك النائية، التي كان يصلها على حصانه، محمِّلاً في سرجه المزخرف أدوات صغيرة للبيع.
كنت لا أزال نائماً على الحصيرة في الدار عندما أيقظني برفقه المعتاد: يجب أن تقوم قبل أن تطلع علينا الشمس. نهضت مسرعاً. وإذ بدأنا الرحلة القصيرة إلى الكروم، أخذت الشمس تشرق على التلال قبالتنا. وبدونا، هو وأنا، بالقبعات، كما لو أننا في مشهد من فيلم سينمائي قديم.
الحقيقة أنه مشهد يتكرر كل يوم. لا تنضب حكايات جدي عن غربته الأولى في المكسيك، والثانية في فلنت، ميشيغان. ناهيك بالقصص التي قرأها في كتب التراث. لا يتغير الروتين اليومي في الكروم. يفتح صهاريج المياه. يشحّل العرائش. يحكي عن مكارم الأخلاق. وهكذا نمضي الوقت الجميل قبل أن ينتصف النهار، ونعود إلى البيت، حيث تتربع جدتي في قلب الدار بين المساند مثل شيخة قبيلة من أهل البادية.
كان جدي يتقدمني قليلاً عندما بلغنا الصنوبرة الكبرى. فجأة، توقف والتفت إلى الوراء كأنه يبحث عمن يطارده. وجدي الذي لم أسمعه مرة يتلفظ بكلمة غاضبة، تطلع في أعالي التلال وقال هامساً: اللعنة. إنها الخوارج. وما إن أكمل جملته حتى نزل العتم من السماء، وظهرت غيوم سوداء تتسارع كأنها تبحث عن ملجأ. ودبّ في المكان صقيع، ومرت طيور هاربة على غير هدى. ثم هبت الريح من كل الأمكنة. وتهاوت أغصان الشجر، وتكسر بعضها وهو يثقل نحو الأرض. ثم أخذت الريح تشتد كأنها تريد أن تدفع الجبال أمامها، وتحول المطر فيضاناتٍ محملةً بالتراب الأحمر كالدماء، وتحولنا، جدي وأنا، خرقاً تعصرها المياه. وأخذت العاصفة تتراجع، والغيوم تنسحب، والمطر يتباطأ. ونظر جدي إلى السماء ممتناً، وقال وهو يضع يده على كتفي: لا تخف. مجرد نزوة من نزوات الخوارج.