: آخر تحديث

ميزان الرعب بين إسرائيل وإيران وأذرعها: انهيار السد وبداية عصر المواجهة المفتوحة

3
2
2

في قلب الشرق الأوسط، ظل ميزان الرعب بين إسرائيل وإيران وأذرعها المسلحة، خصوصًا حزب الله وحماس، هو الحاجز الأخير أمام انفجار إقليمي شامل. لم يكن هذا الميزان اتفاقًا مكتوبًا، بل كان شبكة معقدة من التفاهمات غير المعلنة، فرضت خطوطًا حمراء صارمة على الجميع. لكن في السابع من أكتوبر 2023، انهار هذا السد فجأة، لتدخل المنطقة مرحلة جديدة تتسم بالغموض والخطر، وتعيد رسم خرائط التحالفات والعداوات.

 

منذ انتهاء حرب تموز 2006، نشأت بين إسرائيل وحزب الله معادلة ردع متبادلة، جعلت أي مواجهة مباشرة بين الطرفين مغامرة محفوفة بالمخاطر. إسرائيل، رغم قدراتها الاستخباراتية والعسكرية، امتنعت عن استهداف عناصر الحزب بشكل مباشر في لبنان أو سوريا. وعندما كانت تضرب أهدافًا في سوريا، كانت تختار مواقع إيرانية أو مستودعات أسلحة، وتتجنب عمدًا المساس بقيادات الحزب أو قواعده الرئيسية.

حتى في غزة، سادت تفاهمات غير مكتوبة: مقابل كل صاروخ يُطلق من القطاع، كانت إسرائيل ترد بقصف مواقع عسكرية غالبًا فارغة، وتحرص على ألا يتجاوز الرد حدود التصعيد الشامل. أما إذا سقط قتلى إسرائيليون، كان الرد الإسرائيلي أكثر عنفًا، لكنه يبقى محسوبًا بدقة. كانت كل مواجهة أشبه برقصة على حافة الهاوية، دون السقوط في الهاوية ذاتها.

خطابات الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، تحولت إلى حدث أمني واستراتيجي في إسرائيل. كل كلمة منه كانت تُرصد وتُحلل في غرف عمليات الجيش الإسرائيلي، وتُرفع على إثرها حالة التأهب على الحدود الشمالية. في خطابه الشهير بعد عملية "أفيفيم" عام 2019، حين رد الحزب على مقتل عنصرين له في سوريا، قال نصر الله:  

"الرد قادم، ولن يمر استهداف أبنائنا دون عقاب"

هذه العبارة وحدها دفعت إسرائيل إلى إخلاء مواقع عسكرية على الحدود، وتغيير أنماط حركة الجنود، في مشهد يعكس حجم الردع الذي فرضه الحزب.

وفي كل مواجهة، كان نصر الله يحرص على التذكير بأن الحزب يملك مفاجآت، وأن تجاوز الخطوط الحمراء سيقلب الطاولة على الجميع. خطابات نصر الله لم تكن مجرد تهديدات، بل رسائل مدروسة، ضمنت بقاء ميزان الرعب قائمًا، وأجبرت إسرائيل على مراجعة حساباتها في كل خطوة.

لم يكن حزب الله وحده في معادلة الردع؛ بل كان جزءًا من محور إيراني واسع يضم سوريا، العراق، واليمن. النظام السوري، رغم ضعفه بعد الثورة والحرب الأهلية، ظل جزءًا من ميزان الرعب، إذ امتنعت إسرائيل عن إسقاطه مباشرة، وركزت ضرباتها على أهداف إيرانية أو شحنات أسلحة متجهة للحزب.

 

لكن مع تصاعد الضغوط الدولية والإقليمية، بدأت تظهر ملامح شرق أوسط جديد. قوى محلية في سوريا، مثل "قسد" وبعض العشائر العربية، بدأت تبحث عن تفاهمات مع إسرائيل أو مع دول الخليج، في محاولة للانخراط في محور معتدل يضمن لها البقاء، بعد أن باتت تدرك أن النظام السوري أصبح عبئًا على الجميع، وأن إيران لم تعد قادرة على حمايته كما في السابق. هكذا، بدأت معادلات القوة تتغير، وتبرز قوى جديدة تسعى للانخراط في شرق أوسط أكثر اعتدالًا، قائم على تفاهمات أمنية واقتصادية مع إسرائيل.

غزة كانت دائمًا جزءًا من معادلة الردع الإقليمية، لكنها شهدت سلسلة من المواجهات الدامية مع إسرائيل، كان أبرزها:

- حرب 2008-2009 (عملية الرصاص المصبوب): استمرت 22 يومًا وأسفرت عن مقتل أكثر من 1300 فلسطيني و13 إسرائيليًا.

- حرب 2012 (عملية عمود السحاب): استمرت 8 أيام، قُتل خلالها أكثر من 160 فلسطينيًا و6 إسرائيليين.

- حرب 2014 (عملية الجرف الصامد): استمرت 51 يومًا، قُتل فيها أكثر من 2200 فلسطيني و73 إسرائيليًا.

- جولة مايو 2021 (سيف القدس): استمرت 11 يومًا، قُتل خلالها أكثر من 250 فلسطينيًا و13 إسرائيليًا.

- جولات تصعيد محدودة في 2018 و2019 و2022، كانت جميعها تدور ضمن تفاهمات غير مكتوبة، حيث كانت إسرائيل ترد على الصواريخ بقصف مواقع عسكرية فارغة غالبًا، وتحسب عدد الضحايا بدقة لتجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة.

هذه المواجهات، رغم عنفها، كانت دائمًا محكومة بقواعد اشتباك واضحة، وسرعان ما كانت تنتهي بتدخلات إقليمية ودولية، وتعود الأمور إلى حالة التوتر المحسوب، حتى جاء السابع من أكتوبر ليكسر كل هذه المعادلات.

 

كل هذه التوازنات انهارت فجأة في السابع من أكتوبر 2023، حين نفذت حماس عملية "طوفان الأقصى" من حيث لا تتوقع إسرائيل، ومن الذراع الأضعف في محور إيران. قادة حماس، يحيى السنوار ومحمد الضيف، لم يكتفيا بكسر التفاهمات، بل حطماها تمامًا، وفتحا الباب أمام مواجهة مفتوحة، لم تعد فيها الخطوط الحمراء ذات معنى وكانا يعتقدان ان ايران ستفعل ما محورها للهجوم على اسرائيل وفتح جبهات متعددة لإرباك اسرائيل وهزيمتها كما جاء في رسائل تم الاستيلاء عليها خلال حرب غزة.

رد إسرائيل كان غير مسبوق، وردود الفعل الإقليمية والدولية كشفت عن حالة ارتباك وتخبط. حتى حزب الله، رغم خطابه التصعيدي، لم يدخل الحرب بشكل كامل، بل ظل يراقب ويهدد، في انتظار اتضاح صورة التحالفات الجديدة وكان الحوثي في اليمن مفاجئا في رده وإسناده لفلسطين بضرب كل طرق الملاحة المتوجهة لاسرائيل عبر البحر الأحمر واستمر حتى الساعة في إطلاق صواريخ تربك الداخل الاسرائيلي لساعات عند اطلاقها.

 

بعد انهيار ميزان الرعب، تصاعدت المواجهة إلى مستوى غير مسبوق حين اندلعت "حرب الإثني عشر يومًا" بين إسرائيل وإيران، بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة. هذه الحرب القصيرة والعنيفة كشفت أن المنطقة دخلت فعليًا عصر المواجهة المفتوحة بين القوى الإقليمية.

في تلك الحرب، أطلقت إيران صواريخ باليستية وطائرات مسيرة بعيدة المدى نحو أهداف إسرائيلية، وردت إسرائيل بضربات جوية وصاروخية دقيقة على منشآت عسكرية ونووية إيرانية. الولايات المتحدة لم تكتفِ بالدعم اللوجستي والاستخباراتي، بل شاركت بقواتها البحرية والجوية في حماية إسرائيل واعتراض الهجمات الإيرانية وقصفت بقاذفات بي 2 مواقع نووية إيرانية، هذه المواجهة غيرت قواعد اللعبة وأكدت أن أي تصعيد مستقبلي قد يتحول إلى حرب إقليمية شاملة، خاصة مع إعلان إيران امتلاكها يورانيوم مخصب بدرجات عالية ورفضها التوقف عن التخصيب.

 

كان ميزان الرعب سدًا فولاذيًا حمى المنطقة من الانهيار الشامل، لكنه سمح لإيران بمد نفوذها في أربع عواصم عربية، وجعل الدول المعتدلة تعيش في ظل التهديد الدائم. اليوم، وبعد انهيار هذا السد، يقف الجميع على حافة المجهول. المنطقة أمام مفترق طرق: إما شرق أوسط جديد قائم على تحالفات غير مسبوقة وتفاهمات أمنية واقتصادية تقودها السعودية مع الولايات المتحدة ودول أوروبا، أو عودة إلى توازنات رعب أشد قسوة، وربما انفجار لا يمكن لأحد احتواؤه.

في هذا المشهد المضطرب، لم تعد الخطوط الحمراء واضحة، ولم يعد أحد يضمن أن رقصة النار على الحافة ستنتهي دون سقوط مدوٍ في الهاوية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.