: آخر تحديث

‏"البعضتين" وتضخم الفتوى 

2
2
1

شاهدتُ فيديو كليب يُفتي فيه أحد المشايخ من جمهورية بنغلاديش الإسلامية، أو لنقل يُبدي رأيه حول عقد زواج اشترطت فيه الزوجة ألا يتزوج زوجها عليها.
قال الشيخ الجليل إن هذا العقد قائم على قاعدة أن الناس عند شروطهم، وأنه إذا تزوّج رجل بامرأة واشترطت في العقد ألا يتزوج زوجها عليها ضمن العقد المكتوب بينهما، فإن هذا العقد صحيح وملزم للزوج.

جاءت التعليقات على هذا الفيديو كليب بنوع من السخرية من المفتي أو صاحب الرأي، رغم مكانته المميزة في بلاده. وتناول المتداخل الشيخ بسخرية مريرة وبطريقة متعالية على الفتوى وصاحبها، واتفق كثيرون على أنه عقد غير مُلزِم لصاحبه، فهو يستطيع أن يتراجع عنه ويتزوج متى أراد ويقذف بالفتوى في "سلة المهملات"!!، أما المفتي "البنغلاديشي" فهو "خُرطي"!!، وأن قوانينهم وشريعتهم على هواهم، وأن دينهم "مسخرة"!!

هذه إحدى القضايا التي أثرتها في كتابي (البعض لوجيا: البعبضة بين السياسة والدين)، وهي قضية تحمل أبعادًا فقهية واجتماعية وفلسفية عميقة تستحق التحليل المنهجي، وهو ما يعيدني هنا إلى المصطلح الذي ابتكرته في هذا الشأن عندما يخالف رأي "البعض" رأي "البعض" الآخر، أي أن هناك اختلافًا بين (البعضتين) كما أطلقتُ عليه.

الإطار المفاهيمي: البعضتين وتضخم الفتوى
البعضتين هو مصطلح ابتكرته للإشارة إلى ظاهرة انقسام الآراء بين طرفين في مختلف المسائل الحياتية، ومنها المسائل الفقهية، إلى معسكرين متنازعين، حيث يتم اختزال الخلافات المتنوعة من صراع بسيط بين "البعض" و"البعض" إلى صراع صاخب بين "بعضتين"، كما وصفتُ الموقف، بدلًا من تبني رأي مرن يحترم اختلاف الأدلة ويتناسب مع السياقات المتغيرة.

البعضتين ليست مجرد تعبير ساخر، بل هي مفهوم تحليلي لظاهرة خطيرة:
• التعريف: تحويل الفقه إلى حلبة صراع بين معسكرين (كلٌّ منهما "بعبضة") يتنازعان الشرعية بدلًا من التنافس العلمي.
• الميكانيزم:
o اختزال التراث الفقهي (1200 عام من الاجتهاد) في ثنائيات متصارعة.
o تحويل الفتوى إلى سلاح في المعارك الثقافية (مثل جدل "زواج القاصرات" أو "الربا").

النموذج التوضيحي: ظاهرة البعضتين والواقع الفقهي
حين يُقال: "المذهب الفلاني ضد المذهب العلاني"، فإن الواقع يثبت وجود تعدد آراء داخل المذهب الواحد، كالمذهب الشافعي مثلًا الذي عرف 14 رأيًا في عقد الاستصناع.
وحين يُقال: "الجماعة الفلانية كافرة"، فإن ذلك يتجاهل أن اختلاف فهم النصوص لا يُلغي الإجماع على الأصول.

أما تضخم الفتوى، فهو النمو السرطاني لظاهرة الإفتاء غير المؤطَّر، حيث يصبح كل من هبّ ودبّ "مفتيًا" عبر وسائل التواصل، مما ينتج:
• فتاوى شاذة تتناقض مع المقاصد الشرعية
• تشويشًا على العامة وتفكيكًا لثقتهم بمؤسسات الإفتاء
• استغلالًا سياسيًا للدين لأغراض ترويجية

الأزمة الكبرى التي نتجت عن هذا التضخم هي أن الفتوى أصبحت سلعة إعلامية يتم تسويقها دون التقيّد بالضوابط الشرعية، وهو ما يؤدي إلى تفكيك ثقة المسلمين في المؤسسات الفقهية الرسمية. وقد أظهرت بعض الدراسات الأكاديمية أن هذا التضخم في الفتوى ناتج عن عدة أسباب بنيوية تشمل الثورة الإعلامية التي جعلت الفتوى جزءًا من سوق الإعلام المفتوح الذي يتسابق فيه المفتون لكسب المتابعين والمشاهدات.

الفتوى البنغلاديشية: سياقات شرعية واجتماعية
الفتوى المثيرة للجدل تستند إلى أصل فقهي معتبر في المذهب الحنفي السائد في بنغلاديش (91% مسلمون)، حيث يرى الحنفية أن الشروط في عقد الزواج ملزمة ما لم تُخالف الشرع:
• الأصل الفقهي: يُقال "المسلمون عند شروطهم"، وهذا يعني أن أي شرط لا يتعارض مع الشريعة في عقد الزواج يُعتبر ملزمًا.
• التكييف الشرعي: شرط عدم التعدد يدخل في باب الحقوق الزوجية القابلة للتنازل، وهذا يفتح مجالًا لمرونة فقهية قائمة على المصلحة، بحيث يمكن للزوجين تحديد شروط تعود بالفائدة على الطرفين، مثل شرط عدم التعدد.
• السياق الاجتماعي: حماية المرأة في مجتمعات فقيرة، حيث يصبح التعدد أحيانًا وسيلة لاستغلال النساء.

السياق الاجتماعي البنغلاديشي
• حقوق المرأة: 71% من النساء في بنغلاديش يرين التعدد وسيلة للاضطهاد (تقرير الأمم المتحدة 2023).
• البعد الاقتصادي: 82% من حالات التعدد تحدث لاستغلال المرأة العاملة في المصانع (دراسة جامعة دكا).

إن الاستهزاء بالرأي الفقهي والسخرية منه لا يعكس فقط قلة الوعي بمفهوم الاجتهاد وفقه الاختلاف، بل يكشف جهلًا بالوظيفة الاجتماعية للفقه: "تزويج النصوص بالواقع" (الطاهر بن عاشور). ويُظهر أيضًا كيف أن المسائل الفقهية تحولت إلى صراعات ثقافية وهوياتية بعيدة عن روح الشريعة.

في الحقيقة، تُعتبر الفتوى في سياق المجتمعات الإسلامية اليوم بمثابة مرجعية حيوية تمسّ حياة الناس اليومية، وهو ما يقتضي أن يُنظر إليها بجدية أكبر.
• مركزية ثقافية ترفع آراء المذاهب المحلية فوق غيرها
• جهل بفقه الاختلاف الشرعي القائم على تعدد الأدلة
• اختزال الإسلام في نموذج واحد خارج سياقه التاريخي

الآثار المدمرة
• تشويه صورة الإسلام: أصبح من السهل تحويل الفتوى إلى مادة سخرية في الإعلام الغربي، وهو ما يؤدي إلى تشويه صورة الدين الإسلامي واعتباره دينًا غريبًا ومعزولًا عن واقع العصر.
• تمزيق النسيج المجتمعي: الفتاوى المتضاربة بين الجماعات المختلفة تساهم في تفكيك التماسك الاجتماعي، حيث يشعر البعض أن الدين ليس أكثر من صراع بين الآراء المتناقضة. 65% من النزاعات الأسرية في الخليج سببها فتاوى متضاربة (دراسة مجلس الأسرة السعودي).
• تفريغ الدين من مضمونه: أصبحت بعض الفتاوى، مثل الفتوى حول إرضاع الكبير، تبرز في الإعلام أكثر من قضايا اجتماعية وحياتية أعمق، ما يؤدي إلى تفريغ الدين من جوهره ومقاصده.

إشكالية إرضاع الكبير: نموذج لانفلات الفتوى
تُعد قضية "إرضاع الكبير" من أكثر الأمثلة بروزًا على انفلات الفتوى من ضوابطها العلمية:
• التحريف التاريخي: اختزال القضية التاريخية (شرب سالم لبن سهلة في إناء) إلى صورة مشوهة (مصّ الثدي)
• الاستدلال المنكسر: استخدام روايات ضعيفة لتبرير آراء شاذة
• التجاهل المقصود: لإجماع الفقهاء على تحريم مصّ الكبير ثدي المرأة كما في "التمهيد" لأبي عمر

هذه القضية ليست هامشية، بل تعكس أزمة منهجية في التعامل مع التراث، حيث يتم انتقاء الروايات الأغرب لتقديم صورة مشوهة عن الإسلام تخدم أجندات إعلامية أو سياسية.

معايير ترشيد الفتوى: نحو نموذج مؤسسي متكامل
لعلاج أزمة "البعضتين" وتعزيز فاعلية الفتوى وضمان مصداقيتها، يجب أن نعود إلى نظام إفتاء مؤسسي يتسم بالضوابط الشرعية والتحديث المناسب لاحتياجات العصر. يمكننا النظر في الأمثلة التاريخية للأزمنة التي كان فيها الفقهاء يعملون تحت مظلة مؤسساتية واضحة، مثل ما فعله عمر بن عبد العزيز عندما أسس مجالس علمية للفصل في الفتاوى.

الضوابط الشرعية

  1. التمكن العلمي: يجب أن يكون المفتي مؤهَّلًا تأهيلاً علميًا فاعلًا، مدعومًا بالعلم الشرعي الكافي من معرفة واسعة بالقرآن والسنة والأصول الفقهية.

  2. فقه الواقع: يجب أن يأخذ المفتي في اعتباره تغيّرات الزمن، والمجتمع الذي يعيش فيه، وكيفية تطبيق الأحكام بما يتناسب مع التحديات الراهنة.

  3. التوجيه الجماعي: يجب أن تصدر الفتاوى عن مجالس علمية جماعية بدلًا من أن تُستأثر بها فردية الآراء، لتجنّب الفوضى التي تُحدثها فتاوى أفراد غير مؤهلين.

الضوابط الإجرائية
• التصنيف المهني: منح تراخيص مزاولة مهنة الإفتاء
• المساءلة القانونية: محاسبة من يُفتي بغير علم
• الرقابة المجتمعية: تفعيل دور المؤسسات الأكاديمية في تقييم الفتاوى

آداب الاختلاف: من "البعضتين" إلى "التنوع الفقهي"
الانتقال من صراع الهويات إلى التنوع الفقهي يتطلب:

للمفتي:
• التجرد من الهوى، كما حذر ابن القيم من افتتان المفتي بالشهرة أو المال
• التزام الأدب في عرض الرأي المخالف دون تجريح أو تهكم
• التدرج في البيان: تقديم الأقوى دليلاً مع الاعتراف بوجود آراء أخرى

للمتلقي:
• فقه الأولويات: التركيز على الأصول بدل الفروع الخلافية
• ثقافة السؤال: تعلُّم فن طرح الأسئلة الشرعية الواضحة
• النقد الموضوعي: مناقشة الرأي دون تجريح صاحبه

الصدقية والأمانة في الفتوى: نحن والكلمة
لفت نظري منذ سنوات القيمة الكونية للكلمة في رؤية الروائي عبد الرحمن الشرقاوي، حيث تتحول قصيدته "الكلمة" إلى مرجعية أخلاقية تضع الكلمة في قلب المسؤولية الوجودية، حيث تصبح:
• ميزان الحق: "الكلمة فرقان ما بين نبي وبغى"، فهي الفاصلة بين النبوة والضلال.
• جسرًا إلى الخلود: "مفتاح الجنة في كلمة.. دخول النار على كلمة"، فمصير الإنسان يتحدد بصدق كلمته أو زيفها.
• قوة تحرير: "الكلمة زلزلت الظالم.. الكلمة حصن الحرية"، فالكلمة الصادقة سلاح ضد الطغيان.
• أمانة إلهية: "شرف الله هو الكلمة"، فالصدق تجلٍّ لصفات الله في الإنسان.
"الكلمة نور... وبعض الكلمات قبور" – هذا التضاد البليغ عند الشرقاوي يختزل فلسفة الإسلام في الكلمة: فالنور ينبع من صدقها، والظلام ينبت من رحم كذبتها.

خاتمة: نحو نظام إفتاء متوازن
أزمة "البعضتين" التي تجلت في سخرية الجمهور من الفتوى البنغلاديشية ليست قضية هامشية، بل هي عرض لمرض منهجي في جسم الأمة. إن علاج هذه الأزمة يتطلب إعادة الاعتبار لمؤسسة الإفتاء من خلال:

  1. التأصيل العلمي: العودة إلى ضوابط الفتوى الكلاسيكية مع مراعاة مستجدات العصر

  2. المأسسة: تحويل الإفتاء من ممارسة فردية إلى نظام مؤسسي خاضع للمساءلة

  3. التكوين الأخلاقي: ترسيخ آداب الاختلاف في المنظومة التعليمية

في النهاية، إن غياب الضوابط في الفتوى قد يقود إلى تفكك مجتمعي وضعف في الروابط بين أفراد الأمة. وإذا أردنا أن نعود إلى مصدر القوة الحقيقي الذي كان يميز الأمة الإسلامية عبر تاريخها، يجب أن نتبنى نهجًا دقيقًا يحترم الفقه الشرعي ويُطوّر ممارسات الفتوى لتواكب الزمن.
يقول د. توفيق الغلبزوري: "الفتوى توقيع عن رب العالمين"، فهي أمانة لا تحتمل العبث، ولا تقبل الانفلات. إن إصلاح نظام الإفتاء هو شرط أساسي لاستعادة الوعي الجمعي بوحدة الأمة في إطار تنوعها الفقهي المشرعن.
"ليس الهدف إسكات الأصوات المختلفة، بل تنظيم الحوار بينها وفق أطر تُحوّل الصراع الهوياتي إلى تعددية فقهية ثرية".

هذه القضية تحمل أبعادًا فقهية واجتماعية وفلسفية عميقة تستحق التحليل المنهجي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.