: آخر تحديث

بداية ثورة جديدة في تركيا

1
1
1

خطوة رمزية لكن لها دلالات عميقة.. مشاهد إحراق ثوار العمال الكردستاني لبنادقهم في كهف (جاسنة) ذكّرتني بما فعلناه نحن الشباب أفراد بيشمركة كردستان العراق حين اضطررنا لتسليم بنادقنا إلى حرس حدود إيران في طريقنا إلى المنفى القسري بعد انهيار ثورة أيلول في آذار (مارس) عام 1975. بدايات ونهايات متشابهة لثورتين كرديتين اندلعتا من أجل التحرر، لكنهما مختلفتان في النتائج.

قبل اندلاع ثورة الكرد في الجزء العراقي، لم يكن الشعب الكردي محروماً تماماً من حقوقه القومية أو المشاركة بإدارة السلطة في العراق، بل إن آخر رئيس وزراء عراقي في العهد الملكي أحمد مختار بابان كان كردياً، وهو من أسرة بابان العريقة في مدينة السليمانية. وبعد سقوط الملكية وإنشاء الحكم الجمهوري، كان خالد النقشبندي الكردي عضواً في المجلس الرئاسي للدولة. ناهيك عن العديد من الوزراء الكرد ومحافظي المدن ومسؤولي الدولة من أبناء الشعب الكردي شاركوا في وزارات حكومية، بما فيها في العهدين البعثيين الحاكمين بالعراق. وكانت الثورة الكردية التي اندلعت أثناء حكم الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم، الذي وضع أول دستور عراقي يعترف بحقوق الأكراد، تنص المادة الثالثة منه على أن "العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية". ولكن الثورة الكردية ضد حكمه قام بها عدد من رؤساء العشائر الكردية والإقطاعيين المتضررين من إقرار الحكومة العراقية لقانون الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين البسطاء!

أما في تركيا، فقد عانى الشعب الكردي هناك من إنكار عنصري حاقد لعدة قرون، حتى إن الجمهورية الجديدة التي نشأت على أعقاب سقوط الخلافة العثمانية أسمت الكرد بكل عنجهية وصلافة وحقد عنصري بأنهم (أتراك الجبال)، منتزعة منهم حتى حقهم في الانتماء القومي!

استمرت الثورة الكردية الأولى في العراق بقيادة الملا مصطفى البارزاني 14 عاماً ثم انهارت، ونشبت الثورة الثانية في عام 1975 على يد الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني واستمرت 15 عاماً وانتهت بالنصر وتحرير كردستان من خلال انتفاضة شعبية عام 1991 وتأسيس البرلمان والحكومة المحلية وإنشاء كيان كردي شبه مستقل لحد الآن. بينما استمرت الثورة الكردية بقيادة عبدالله أوجلان في تركيا لأكثر من أربعين عاماً وانتهت بندائه التاريخي لحزبه بإلقاء السلاح واللجوء إلى الحوار والسلام مع تركيا.

يظن الكثيرون ممن لا يزالون متأثرين بالعصبية القومية بأن نهاية ثورة الكردستاني لا تختلف كثيراً عن السقوط الكامل لثورة البارزاني، ولكن الأمرين مختلفان تماماً. فثورة البارزاني انتهت بعد أن رهنت قيادتها إرادة وقرار الثورة بيد شاه إيران، والذي باعها الشاه للعراق بثمن بخس: كيلومترات معدودة من الحدود والمياه. بينما ثورة الكردستاني لم تنتهِ بعد، وما حصل لا يعدو سوى خطوة رمزية لجسّ نبض قيادة تركيا حول مدى جديتها للسير نحو الحلول السلمية بعد عقود طويلة من الاحتراب والصراع غير المجدي، والذي أودى بحياة عشرات الآلاف من كلا الطرفين.

الكرة الآن أصبحت بملعب القيادة التركية، فإما النية الصادقة والجدية لحل الصراع عبر تغيير الدستور التركي والاعتراف الكامل بوجود الشعب الكردي والإقرار بحقوقه الإنسانية والثقافية والقومية، وإطلاق سراح زعيم الحزب وباقي المحكومين بسبب القضية، وفتح الأجواء الصحية في المناطق الكردية من خلال دعم مشاريع التنمية والإعمار، وفسح مجال النضال السياسي أمام حزب العمال الكردستاني، وإن كان باسم جديد، أو في أسوأ الاحتمالات، العودة مجدداً إلى الحرب والاقتتال الذي لم ينتفع منهما أحد طوال العقود الأربعة الفائتة.

لقد أبدت قيادة العمال الكردستاني جديتها ونيتها الصادقة لإحلال السلام في تركيا، وروعة المنظر الأخير لإحراق البنادق تكمن في أن مقاتلي العمال الكردستاني الـ(30) لم يسلموا أسلحتهم للجيش المحتل، بل أحرقوها، وهذا ليس استسلاماً، بل هو إسكات مؤقت لصوت الرصاص، فما زال هناك عشرات الآلاف من البنادق ما زالت بيد نساء ورجال الحزب. وما على القيادة التركية إلا إظهار حسن النوايا، وعدم التلاعب بالوقت، والإسراع بتنفيذ التزاماتها تجاه عملية السلام، وإلا، كما يقال: "إن عادوا عدنا"، والثورة ستستمر حتى ولو بـ"المسحاة".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.