يجسِّد ترامب نمط الشخصية الأميركية الأصيلة عارية، تخلع ياقة دبلوماسية السياسي الأميركية التقليدية بجرأة رجل الكاوبوي الذي يجمع بين عنجهية القوة وجبن التجارة، وأنانية النفعية. يتطلب فهم أبعاد الشخصية الأميركية دراسة حليمة لسيكولوجيا الميثولوجيا الأميركية النائمة في أعماق الأميركيين، وتوجّه مساراتهم بطريقة غير مباشرة.
ساد في الثقافة العالمية دراسة أثر سيكولوجيا الميثولوجيا في آدابها وفنونها. لكنها غابت دراستها عن البنية السياسية عامة، والأميركية خاصة. بالرغم من أن فلسفة التاريخ السياسي بمختلف انتماءاته الإيديولوجية والزمانية والمكانية، تؤكد تحكّم إرث سيكولوجيا الميثولوجيا في بناء سلوك شخصيات قادة العالم، وأنماط تفكيرهم السياسي.
هناك خيط متين لا يضله متتبع سياسة قادة أميركا منذ نشأتها، وعلى اختلاف شخصياتهم، وسياستهم، يربط بين شبكة تلك السياسات مهما اختلفت أساليب قيادتهم، ويمكننا القول: إن الكثير من المبادئ الأساسية الثابتة للسياسة الأميركية كان يمثلها "بنجامين فرانكلين" الملقب بصانع أميركا. والأميركي الأول. فهو مَن قاد حملة شرسة تهدف إلى إعلاء شأن الولايات المتحدة. ووضع أساساتها الإمبراطورية.
كان بنجامين فرانكلين الأب الروحي للدولة الاقتصادية تاريخياً. فالإمبراطورية العالمية برأيه تقوم على عملقة الاقتصاد. وألهمت فكرة أولوية الاقتصاد العملاق عنده "جيرمي بنتام" حيوية المبدأ النفعي، وهو صانع الفلسفة النفعية التي تعد أساس تكوين الثقافة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأميركية، وهي فلسفة تقيس صواب العمل بما يحققه من منفعة وسعادة للإنسان. والسعادة في التطبيق العملي لهذه النظرية تتقوقع حول القوة الاقتصادية والهيمنة السياسية لتحمي تلك القوة.
وهذه النظرية مارسها ساسة أميركا من غير تلكؤ على مدار تاريخ عظمتها، وتتجلى على يد ترامب فاقعة عارية. والحقيقة أن أفكار أولوية الاقتصاد في أميركا ليست وليدة، إنما هي مترسخة في التكوين الشخصي للأميركيين، لأنها نائمة في سرير أساطيرهم الشعبية تداعب أخيلتهم، وترسم أفق أحلامهم، ولا سيما تلك التي تتمركز في مختلف صورها حول مقولات النفعية الكاوبوية. ولو اخترنا على سبيل المثال إحداها المسماة "أوغوبوغو" لتلمسنا بوضوح يقظتها في سلوك ترامب السياسي ودافعيتها السيكولوجية لسياسته. ولا سيما فكرة ثمن الحماية الأميركية لبعض الدول فيما يطابق مصطلح الجزية، وتلك فكرة طرحها ترامب بجرأة ومباشرة. والنزعة النفعية العارية في هذه الفكرة تتجسد في أسطورة "أوغوبوغو" التي تحكي أنه مخلوق عملاق يعيش في بحيرة أوكاناغان، وهو على هيئة ثعبان ضخم برأس تنين. وقد أطلق عليه "سيكوبيمك" اسم "نيكاتا" أي (روح الماء) أو (شيطان الماء)، وكان هذا الكائن يفرض الجزية على كلّ شخص يريد عبور بحيرة أوكاناغان ومَن يمتنع عن دفع الجزية يغرق جراء عاصفة يحرضها "أوغوبوغو".
ويُحكى أن الأميركيين الأصليين كانوا يجلبون الحيوانات الصغيرة ليرموها في البحيرة قبل عبورها أضحيات لإرضاء "أوغوبوغو". ويكثر في سياق هذه الأسطورة تداول أساطير عديدة تتعلق بالمصير السيئ الذي سيلحق بمَن لا يصدق "أوغوبوغو". وتحتم نهايتهم بالغرق. ومما يدل على سطوة هذه الأسطورة على ذهنية الأميركيين أنهم لا يزالون يبلغون مشاهداتهم لأوغوبوغو في وقتنا الراهن، ويقدمون أوصافاً له تطابق صورته الأسطورية.
يقول الباحث لاري جاي زيمرمان: "وفقاً لمعتقد أميركا الشمالية الأصلية، عاشت كائنات مثل أبطال الثقافة في ماضٍ مقدس ليس بعيداً أو بدائياً، ولكنه عالم موازٍ حي غير مرئي لا يزال يدركونه في الرؤى والأحلام، وتستمر هذه الكائنات في جعل وجودها محسوساً في العالم المادي، وتظل حية في ذاكرتهم توجههم". ومن غير شك أن الأثر السيكولوجي لأساطير أميركا تحكمت بذهنية ساسة أميركية وعلى رأسهم ترامب الذي تعكس شخصيته مركب الشخصية الأميركية الأصيلة وتوجّه سياسته، وهو يتقمص "أوغوبوغو" ويجبي الجزية كرمى لعيونه في القرن الحادي والعشرين.