: آخر تحديث

في حدود الأمن الإسرائيلي

3
2
3

لا يمكن فهم الخيارات العسكرية بين إسرائيل وإيران وما نشهده من ضربات عسكرية متبادلة إلا من منظور تحولات القوة التي تشهدها المنطقة، ورغبة إيران أن تصبح دولة نووية من ناحية، ومن منظور كيف ترى إسرائيل أمنها وحدود هذا الأمن؟ صحيح أن لكل دولة أمنها ومصالحها القومية، وهي أساس السلوك السياسي لكل دولة، وهي التي تفسر لنا لماذا الصراعات والحروب. لكن الأمر بالنسبة إلى إسرائيل يختلف عن بقية الدول الأخرى. بل إن إسرائيل تقدم أنموذجاً فريداً في العلاقات بين الدول.

الأساس بالنسبة إلى إسرائيل هو الأمن، الذي يجب أن يسبق أي اعتبار آخر، حتى السلام. الأمر الثاني أنها قامت بالقوة والسيطرة ومحاولة طرد الفلسطينيين واستمرار احتلالها ورفضها لفكرة الدولة الفلسطينية أو فكرة حل الدولتين التي تعني الاعتراف الكامل بإسرائيل أيضاً. والأساس الثالث أنها قامت بفعل القوى الاستعمارية في حينها في أهم منطقة استراتيجية في العالم لتقوم بدور الوكالة عنها، كما هو دورها اليوم في علاقاتها بالولايات المتحدة. لكنَّ إسرائيل أيضاً تبقى دولة ولها رؤيتها ومصالحها وتحلم بقيام إسرائيل الكبرى في المنطقة أو مفهوم الدولة الأحادية، أو كما يُقال أمنياً: إسرائيل أولاً، وهو ما يعني الحيلولة دون قيام أي دولة بامتلاك أي قوة استراتيجية، فما بالنا بالقوة النووية التي تعني تقليص حدود الأمن الإسرائيلي.

والمسألة المهمة هنا أن إسرائيل، أو فلسطين أصلاً، دولة صغيرة من منظور المساحة الجغرافية، فمساحتها الإجمالية تقارب 27 ألف كيلومتر مربع بعمق قليل، ولهذا دلالات استراتيجية عميقة، والبديل لذلك هو امتلاك القوة النووية واحتكارها ومنع أي دولة من دول الإقليم من امتلاكها، وهذا ينطبق على إيران وغيرها. وإسرائيل قامت على القوة المسلحة والحرب، أولاً حرب 1948 وبموجبها أضافت ما يقارب 25 بالمئة من مساحة فلسطين أو المساحة التي خصصتها الأمم المتحدة بقرار التقسيم رقم 181، ثم حرب 1967 لتضم كل فلسطين وتخضع شعبها تحت الاحتلال حتى الآن، وما حرب غزة إلا حرب من أجل التحرير من هذا الاحتلال.

وضمت مساحات عربية واسعة ولا تزال سيطرتها واحتلالها للجولان حتى الآن، والحروب الخاطفة كما اليوم مع إيران. وبناء عليه، سيبقى الأمن هاجسها الدائم في كل علاقاتها العربية والإقليمية، وليس السلام. وهذا ما يفسر لنا رفضها القاطع للدولة الفلسطينية لأنه يسقط كل سردياتها ويهزمها أمنياً. فإسرائيل من الدول التي تعيش على التمدد الأمني، أما لو تخيلنا تقوقعها داخل مساحة صغيرة محاطة بالدولة الفلسطينية، فهذه هي نهايتها كدولة. ولذلك، حدودها ورؤيتها لأمنها لا حدود لها، وكما قال الشاعر السوري محمد الماغوط: أحلام إسرائيل أطول من حدودها.

فلو أعطيت كل فلسطين ستطلب من يجاورها، لو أعطيت لبنان مثلاً لطالبت بتركيا لحماية أمنها من تركيا، ولو أعطيت سوريا ستطالب ما بعدها العراق وصولاً إلى إيران، ولو أعطيت أوروبا الشرقية لطالبت بأوروبا الغربية، ولو أعطيت القطب الشمالي لطالبت بالقطب الجنوبي. ولذلك، هي لا تعترف بالأمن العربي ولا بأمن أي دولة عربية. وهذا ما قاله رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو بعد الضربة العسكرية على إيران، إن هدفها ليس فقط حماية الوجود الإسرائيلي بل حماية جيراننا العرب، تنصّب نفسها الدولة الأحادية القادرة على توفير الأمن لكل دول المنطقة. لذلك، من حقها فقط أن تكون دولة القوة الوحيدة في المنطقة، وسلامها سلام القوة وليس قوة السلام.

ووفقاً لهذه الرؤية، هي الدولة الوحيدة التي لها حق استخدام القوة ومنع أي دولة من امتلاك عناصر القوة التي قد تخل بموازين القوة لغير صالحها، وهذا ما قامت به إيران من وجهة نظرها، أنها تجاوزت حدود القوة ولذلك وجب ضربها. وحدود هذه الرؤية تصل لحدود باكستان، كما رأينا في أحد تصريحات نتنياهو: أولاً إيران، ثم باكستان.

والأمثلة كثيرة، رأينا ذلك في ضرب المفاعل النووي في العراق وفي سوريا، وكيف أن هدفها من حرب 1967 ضرب قوة مصر المحورية في المنطقة. واليوم نجد هذه السياسة في التعامل مع سوريا بالسيطرة على الأرض والعمل على تفكيكها إلى دويلات صغيرة، وبقاء الأردن ضعيفاً، وتفكيك قوة العراق، والدفع بتشجيع الحروب الداخلية في الدول العربية مثل ليبيا والسودان.

ومن عناصر الأمن الإسرائيلي ما يروج له اليوم بالسلام الإقليمي، وأساسه اتفاق أمني إقليمي تتحكم فيه إسرائيل، باعتبارها دولة قوة كبيرة وتتحكم في القرار الدولي من خلال تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. وسياسة التحالف الاستراتيجي عنصر مهم وأساس في رؤية الأمن الإسرائيلي، وبدونها تتحول إسرائيل إلى دولة هشة أمنياً، فقوتها من قوة هذا التحالف، وما كان بمقدورها أن توجه هذه الضربات العسكرية لإيران وتستمر في حرب إبادتها في غزة دون الدعم المطلق من الولايات المتحدة التي توفر لها الحماية السياسية في الأمم المتحدة والقوة العسكرية والأمنية.

ولو عدنا للعلاقات مع فلسطين، وهي أساس المكون الرئيس لأمن إسرائيل باعتبار أن كل فلسطين تشكل الدائرة الأمنية الأولى لإسرائيل، فهذا يعني لا للدولة الفلسطينية ولا لكل أشكال المقاومة المسلحة التي تعتبرها إرهاباً، ولا للوجود السكاني، لذلك تطالب وتدفع بالتهجير الطوعي القسري للسكان، فالخطر الأكبر لأمنها هو العنصر السكاني الفلسطيني. وهذا يفسر لنا الضم والاستيطان وسلطة بوظيفة أمنية. وضمها للضفة الغربية لكونها منطقة القلب لهذا الأمن.

وهذا هو هدفها من حربها على غزة اليوم: فصلها عن بقية فلسطين وفرض سيطرتها الأمنية الكاملة والتخلص من القضية الفلسطينية. الخلاصة أن ما يحكم علاقة إسرائيل بفلسطين وبالمحيط العربي والدول الإقليمية، إيران وتركيا، هو الأمن، الأمن الإسرائيلي أولاً، أو شعار "إسرائيل أولاً"، ولذلك سيبقى الأمن هو الهاجس والكابوس الذي يحكم ويسيطر على إسرائيل. وفي هذا السياق تُفهم علاقات إسرائيل، ولماذا خيار الحرب أولاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.