بينما ينشغل العراق بإصلاح اقتصاده وترسيخ استقراره السياسي، يجد إقليم كوردستان نفسه محاصرًا بسياسات مزدوجة تجمع بين الابتزاز المالي والتصعيد الأمني. فالحكومة الاتحادية في بغداد تعمد إلى تعطيل صرف رواتب موظفي الإقليم بذريعة الخلافات المتعلقة بتصدير النفط، في وقت تتعرض فيه البنية التحتية النفطية في الإقليم لهجمات بطائرات مسيّرة، ما يعكس أبعادًا سياسية وأمنية تتجاوز مجرد خلافات فنية لتصل إلى محاولات واضحة لخنق الإقليم اقتصاديًا وأمنيًا.
بدأت هذه السياسة منذ عام 2024، حين شرعت بغداد باتباع نهجٍ ممنهجٍ في تأخير تحويل المخصصات المالية الشهرية إلى الإقليم. ورغم وجود اتفاقية موازنة اتحادية تلزم الحكومة بصرف الرواتب وفقًا للدستور، تم تعليقها مرارًا، لا سيما في النصف الأول من عام 2025، بحجة "عدم التزام أربيل بتسليم العائدات النفطية"، بحسب وكالة أسوشيتد برس. ونتيجة لذلك، وجد أكثر من 1.2 مليون موظف في كوردستان أنفسهم بلا رواتب لشهور متتالية، ما أثار موجة احتجاجات واسعة في أربيل والسليمانية ودهوك، وسط تراجع حاد في القدرة الشرائية بنسبة 40% وزيادة معاناة السكان في تأمين متطلبات الحياة الأساسية.
وفي ظل هذه الأزمة المالية، شهد الإقليم تصعيدًا أمنيًا خطيرًا، حيث تعرّضت حقولٌ نفطية رئيسية، هما خورمالة وسرسنك، في 14 و15 تموز/يوليو 2025، لهجمات بطائرات مسيّرة مجهولة، مما تسبب في أضرار مادية جسيمة وحرائق أدت إلى تعليق مؤقت للإنتاج، حسب وزارة الموارد الطبيعية في الإقليم. لم تكن هذه الهجمات الأولى، لكنها كانت الأكثر وضوحًا في رسالتها، إذ تستهدف الموارد الاقتصادية التي تمثل شريان الحياة للإقليم. ورغم خطورتها، اقتصرت ردود فعل الحكومة الاتحادية على الدعوات إلى "التحقيق"، دون إدانة واضحة، ما أثار تساؤلات حول موقفها الحقيقي تجاه أمن الإقليم.
وفي مقابل صمت بغداد، أصدرت السفارة الأمريكية في بغداد بيانًا شديد اللهجة أدانت فيه هذه الهجمات، مؤكدة أن الولايات المتحدة "تدين الهجمات الأخيرة بالطائرات المسيّرة في جميع أنحاء العراق، بما في ذلك الهجمات على حقلي خورمالة وسرسنك النفطيين في إقليم كردستان العراق." وأضاف البيان أن الحكومة العراقية يجب أن تمارس سلطتها لمنع الجهات المسلحة من تنفيذ مثل هذه الهجمات، خصوصًا على المواقع التي تستثمر فيها شركات عراقية ودولية لدعم مستقبل العراق. وختم البيان بالتأكيد على أن هذه الهجمات غير مقبولة لأنها "تقوّض سيادة العراق وتضر بجهوده في جذب الاستثمارات الأجنبية"، داعية الحكومة إلى فتح تحقيق ومحاسبة المسؤولين.
تتداخل هنا السياسة والاقتصاد والأمن في معركة مفتوحة لا تقتصر على إدارة الثروات فقط، بل تمتد إلى صياغة العلاقة بين بغداد والإقليم، حيث يُستخدم ملف الرواتب كأداة ضغط، وتُستهدف المنشآت الحيوية دون رد فعل حازم من الدولة، مما يوحي بوجود إرادة لتقويض استقلالية الإقليم الاقتصادية وإعادة تشكيل العلاقة على أساس التبعية بدلاً من الشراكة.
في خضم هذه الصراعات، يبقى المواطن الكوردي هو الضحية الكبرى، موظفٌ بسيط في مدرسة أو مستشفى لا يد له في صراعات النفط والسياسة، لكنه يُجبر على دفع ثمن انتمائه الجغرافي والسياسي. وإذا استمر ربط لقمة عيش الناس بالخلافات السياسية، فإن مشروع الدولة الفيدرالية في العراق سيصبح مجرد غلافٍ شكلي، وستتفاقم تداعيات النزاع ويستمر النزيف الوطني بلا حل.
إن إنهاء هذه الأزمة يتطلب الاعتراف الكامل بحقوق المواطنين، وفصل الملفات المالية عن الصراعات السياسية، والالتزام الحازم بالدستور كمرجعية تُحكِم الجميع بعدالة، بعيدًا عن الانتقائية. فالعراق لا يُبنى ولا يُوحد بالقوة أو عبر قطع الأرزاق واستهداف البنى التحتية الحيوية.