: آخر تحديث

روما وأثينا وبغداد "اليتيمة"!

3
3
3

قبل أعوام، زرت روما، المدينة التي تحتضن طبقات الزمن كما تحتضن الأم رؤوس أطفالها. تجولت بين معالمها التاريخية العريقة، من بينها مدرج الكولوسيوم الضخم الذي شُيِّد في القرن الأول الميلادي، ومعبد البانثيون الذي لا يبتعد زمنياً في نشأته عن نشأة المدرج، وقوس النصر الذي أُقيم لتخليد انتصار الإمبراطور قسطنطين في معركة جسر ميلفيو عام 312م. تجولت بين المتاحف والمعابد، حيث يسكن صدى الماضي في كل حجر.

وفي الآونة الأخيرة، ألقيت رحلي في أثينا، المدينة التي يحيط بها التاريخ من كل الجهات وتحتوي القلاع والمعابد، مثل الأكروبوليس والبارثينون التي يعود بناؤها لأكثر من 2500 عام، وتنتشر في أماكن متعددة فيها تماثيل فلاسفة وفرسان وساسة ورجال دين، تعيش مع الناس أزمانهم المتتالية وتذكّرهم بالسابقين.

تأملتُ في طباع الناس وأذواقهم في كلتا المدينتين، اللتين تحملان ذاكرة حضارات كانت أساساً في ولادة الفكر الغربي، والديمقراطية، والفن، والقانون.

وفي أثناء جولتي، شاركت جمعاً من الأثينيين حضور مراسم تبديل الحرس أمام البرلمان ورأيت انبهارهم بحركات العسكر التي تذكرهم بأمجاد الأجداد، وشهدت انتشار الناس فرادى وجماعات في أزقة المدينة القديمة المتفرعة من القلاع، يتفحصون الأحجار والشواهد وكأنهم يزورونها لأول مرة.

وبينما كنت أجلس في مقهى صغير يطل على قلعة الأكروبوليس، دخل علينا رجل بلباس مقاتل أثيني، يرتدي درعاً وخوذة ويحمل حربة. وقف أمام الحاضرين ممثلاً لمشاهد من حركات العسكر في زمن اليونان الغابر، ناقلاً إياهم من لحظة الحداثة إلى عمق التاريخ، في سلوك يعكس حضور الماضي في حياة الناس اليومية، لا في الكتب فقط.

في هذه المدن، يرضع المواطن من حليب التاريخ منذ طفولته، فلا تضيع الحكمة من ذاكرته، ولا تجف منابع الفلسفة من فكره، ولا يكون الإبداع في حداثته غريباً عنه، لأنه ابنُ الزمن المتحرّك، لا أسير اللحظة الجامدة أو المتخيلة.

في لقاء جمعني بباحث يوناني، سألته: "كيف يفكر المواطن الأثيني وهو يعيش في هذا العصف التاريخي المتواصل؟ وما أثر ذلك عليه؟".

أجاب: "نحن بجوار معابد الأجداد نشعر بأننا جزء من قصة طويلة بدأت منذ آلاف السنين، وحلقة من سلسلة حضارية نتشارك قيمها، بالرغم من تغيّر الدين واللغة والثقافة السياسية عبر العصور". وأردف: "تخيّل سيدي، أنك في قلب الحداثة، وفي طريقك إلى عملك تقع عيناك على قلعة الأكروبوليس، حيث يقيم الأجداد منذ قرون… فإنك لا بد أن تمضي بيومك وقد تزودت بجرعة من الاتزان. في كل حجر من هذه المدينة قلبٌ بروحين: واحدة تنبض بالماضي، والأخرى تنبض بالحاضر".

وجود الماضي بين الناس، بأماكنه ورموزه، يغرس فيهم حب الفلسفة، والفن، واللغة، والمسرح، والنقد السياسي، لا سيما حين يكون ماضياً زاخراً بالمنجزات. يتواضع المرء أمام الزمن، حيث يُذَكّرهُ كل شيء ومكان بأنه فانٍ، وأن عناصر الفكر والعمارة والمنجز هي الباقية، وهي التي تشجع الأجيال على التجدد والإبداع.

هذه التأملات أثارت في نفسي سؤالاً تاريخياً جوهرياً: هل أخطأ أبو جعفر المنصور في اختيار موقع بغداد، حيث يعيش العراقيون اليوم، بعيداً عن بؤر حضاراتهم القديمة كبابل وأور؟ وكم خسروا من ذاكرتهم نتيجة هذا الانقطاع الطويل عن الماضي؟

لقد اقتصر مخزونهم المعرفي والقيمي على ما أنتج خلال فترة قرنٍ ونصف تقريباً، وهي فترة قصيرة إذا ما قورنت بمسيرة بلاد الرافدين ومنجزاتها الثرية. فغاب عن العراقيين بشكل تقريبي، ميراثهم البابلي والسومري، أو حضر كذكرى غائمة لا تحمل فعل التأثير.

بابل، رمز العظمة القانونية والفكرية، وأور، مهد إبراهيم ومَنبع الأديان التوحيدية، لم يتبقَّ منهما اليوم سوى شذرات من ذاكرة مبعثرة.

حضاراتٌ تحدّثت عن الإنسان، والقانون، والقدر، والكتابة، باتت اليوم خرساء؛ لا، لأن أحجارها تهدّمت، بل لأن صلة رحمها بالأجيال المتتالية قد انقطعت. فأضحت شواهد بلا روح، ومعانيَ بلا امتداد.

المنصور حين اختار موقع بغداد، كان يفكر بعقل سياسي وعسكري، يربط طرق التجارة ويبحث عن القدرة على الدفاع والمناورة. وكان يقصد في فترته مكاناً خالياً من إرث رمزي كبير، ليمكن العباسيين من تأسيس سلطتهم الجديدة. وهي سلطة أرادها مستقلة، لا تمثل امتداداً للأمويين أو للفرس أو للفرثيين، بل كيان يبدأ من الصفر ويكتب رمزيته بيده ولا يورثها من غيره. وهنا تكمن خسارة العراقيين لعمقهم التاريخيّ الطويل، وهنا بالتحديد، يكمن اختلافهم عن أبناء الحضارات الذين سكنوا في مدنهم القديمة وظلّت ذاكرات أجدادهم تحوم حولهم وتنسج حضورها من بين الأحجار والشواهد والمباني والملامح والقيم والعادات.

ولهذا، قليل ما يخفق قلب العراقي عند زيارته لمدنه القديمة كبابل وأور، وقليل ما يستحضر موروثاتها في حياته اليومية، باستثناء بعض العادات والمفردات اللغوية.

المدن التي تبني ذاكرتها فوق قبور أبطالها، كأثينا، وروما، والقاهرة القديمة، والنجف، وكربلاء، والقدس، تكتسب فيها الأزمنة معانيَ خاصّة، وتتحوّل إلى جسورٍ تربط الأجيال ببعضها، وتجعل من التاريخ قوةَ دفعٍ للحاضر، لا عبئًا عليه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.