منذ اندلاع الحروب الأخيرة في الشرق الأوسط، خاصة تلك التي خاضتها إسرائيل مع «حماس»، وإيران، و«حزب الله»، إلى جانب التصعيد بين إسرائيل وأميركا من جهة، والحوثيين وإيران من جهة أخرى، بدا أن المنطقة تقترب أكثر من أي وقت مضى من حافة هاوية نووية قد تطيح بما تبقى من استقرار هش، هذا التصعيد لم يعد مجرد صراع تقليدي محدود، بل أخذ طابعاً مركباً تتداخل فيه الأبعاد العقائدية والسياسية والتقنية، مع انهيار معظم أدوات الردع التقليدية وفقدان القدرة على احتواء التوترات. ومع ذلك، فإن هذه اللحظة المفصلية تحمل في طياتها أيضاً فرصة تاريخية، شرط أن يُعاد التفكير بالسلام لا بوصفه استسلاماً أو مساومة، بل بوصفه استراتيجية بقاء، وازدهاراً مشتركاً.
السبيل إلى سلام دائم لا يمر عبر الغلبة العسكرية، بل عبر تقاطعات المصالح الاقتصادية التي تعيد صياغة قواعد اللعبة وتمنح المتصارعين أسباباً موضوعية للتعاون، ما يمكن تسميته «السلام الاقتصادي» ليس شعاراً إنشائياً، بل مقاربة واقعية أثبتت فاعليتها في نزاعات كبرى حول العالم، مثل تجربة الصين وفيتنام اللتين دخلتا في حروب حدودية دموية في السبعينات، ثم تحولت مناطقهما الحدودية لاحقاً إلى محاور تجارة مشتركة ومناطق استثمار مشترك أسهمت في تهدئة التوتر بشكل مستدام.
الخطوة الأولى تبدأ بالاعتراف بأن الأراضي المتنازع عليها – من غزة إلى جنوب لبنان، ومن مضيق هرمز إلى البحر الأحمر– يمكن أن تتحول من بؤر اشتعال إلى مناطق اقتصادية حرة خالية من أي وجود عسكري أو أمني، وتدار بطواقم مشتركة من جميع الأطراف المعنية، بإشراف دولي إذا اقتضى الأمر، تجارب دولية عديدة تشير إلى أن تحويل «مناطق رمادية» إلى منصات تنمية هو مفتاح الاستقرار الطويل الأمد، في رواندا والكونغو، تم احتواء النزاع الدموي جزئياً عبر إدماج الحدود المشتركة في مشاريع زراعية وصناعية مدعومة دولياً، ما ساهم في تراجع حدة النزاعات المسلحة.
الممرات المائية الحيوية مثل باب المندب، قناة السويس، مضيق هرمز، مياه غزة، يمكن أن تتحول من مواقع صراع بحري إلى ممرات تنموية، تطوير هذه الممرات على شكل مشاريع موانٍ مشتركة، وربطها بمناطق تخزين وخدمات لوجيستية وإعادة تصدير، سيخلق فرصاً اقتصادية هائلة، ويحول المتنازعين من خصوم إلى شركاء في الإيرادات، ففي دراسة أجراها معهد ستوكهولم للسلام تشير إلى أن كلفة تعزيز الوجود العسكري في البحر الأحمر وحده تجاوزت 12 مليار دولار سنوياً خلال العقد الأخير، في حين أن استثماراً مشتركاً بقيمة أقل من نصف هذا المبلغ كان قادراً على إنشاء ممرات تجارية توفر آلاف الوظائف وتعزز الاستقرار.
إن الأطراف المتنازعة جميعها تعاني من أزمات داخلية خانقة: من التضخم في إيران، إلى تآكل الشرعية في غزة، إلى ضغوط اقتصادية في إسرائيل نفسها، ناهيك بالهشاشة الاقتصادية في اليمن ولبنان وسوريا، هذه الأزمات لا تعالج بالتصعيد العسكري بل بمشاريع تنموية توفّر الأمل. ومن هنا تأتي أهمية تبني السلام الاقتصادي لا كبديل للمواجهة فقط، بل كرافعة داخلية تعزز من استقرار الأنظمة نفسها، وتمنح الشعوب أفقاً أفضل من الرصاص والدخان.
ما يحتاج إليه الشرق الأوسط ليس مبادرات دبلوماسية مجاملة، بل يحتاج إلى مشروع متكامل لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية عبر البنية التحتية التنموية. يجب على النخب الحاكمة أن تُدرك أن اقتصاد المصالح المشتركة هو السبيل الوحيد لتفكيك شبكات الكراهية، وكبح جماح الآيديولوجيات المتطرفة، وتحصين المجتمعات من الانهيار، وهنا يمكن للصين – التي تُراكم نفوذاً اقتصادياً هائلاً في آسيا وأفريقيا – أن تلعب دوراً محورياً عبر تمويل وإنشاء مناطق اقتصادية مشتركة في نقاط التماس، بدلاً من ترك الملعب خالياً للسباق النووي أو الصراعات الصفرية.
إن تحوّل المتنازعين إلى شركاء في مشاريع قابلة للربح هو ما يمكن أن يُحدث قفزة استراتيجية في التفكير الإقليمي. فالسلام لا يُفرض، بل يُصنع حين تُصبح تكلفته أقل من كلفة الحرب، ووفق تقرير للبنك الدولي، فإن كل مليار دولار يُستثمر في مشاريع تنموية إقليمية في الشرق الأوسط، يخفض احتمالات الصراع بنسبة 20 في المائة خلال خمس سنوات، هذه المعادلة وحدها كافية لتبرير تغيير المسار.
في النهاية، لا بد أن يتحول السلام من فكرة أخلاقية إلى معادلة نفعية، الأرض المتنازع عليها يمكن أن تصبح منصة إنتاج، والممرات البحرية مشاريع مشتركة، والحدود مساحات تفاعل لا جدران فصل، وإذا امتلكت النخب شجاعة الخيال، فإن الشرق الأوسط يمكن أن يولد من جديد، لا كأرض للدم، بل كمنطقة تنموية تربط الشعوب بالمصالح لا بالمتاريس، هذا ليس حلماً، بل آخر فرصة قبل أن يُقفل التاريخ ملف هذه البقعة المنهكة من العالم.