علي الخزيم
* أشرت في الجزء الأول إلى أن آثار وبقايا الحضارات السالفة التي عاشتها قبائل وتجمعات سكانية اندثرت بأجسادها وبقيت ربوعها ومرابعها شاهدة عليها: هي قيمة غالية جدًا وعزيزة على الأحفاد؛ وميراث تراثي ثقافي ومرتكز ومصدر تاريخي مرجعي لتوثيق حضارة الأجداد؛ ثم إني أرى أنه من العقوق إهمال المقتنيات والمكتشفات الأثرية؛ فمَن يغفل عنها ويتجاهلها فهو كمَن يتنكر لوالده وجَدّه الآن، وهي مَثلَبة يُوصَم صاحبها بالجهل بهذا الجانب المهم من تاريخ وحضارات السَّلَف؛ دون النظر لما كانوا عليه من ديانة؛ فمرجعها إلى الله سبحانه؛ ولهم ما أسلفوا ولنا ما أسلفنا.
* وأستذكر هنا قصة -إن صدقت الرواية- تقول إنَّ فئة من الشباب المندفعين بسنوات مضت قد طَمَسوا لوحة مدرسة بإحدى القرى تحمل اسم إحدى قامات العرب الأوائل قبل الإسلام مِمَّن اشتهر بالكرم والشجاعة والفروسية؛ بحجة أنه كان كافرًا؛ وهو لم يعلم بالإسلام ولم يتخيل بحياته أن رسولًا كريمًا سيُبعَث للناس هاديًا ودليلًا، وهم لَمْ يُعمِلوا عقولهم للتفكير بأن ذاك النبيل العربي وهو بما كان مِن سيرته اللامعة ومكارم أخلاقه ووفائه لقومه: ربما لو أدرك الإسلام لكان مُعينًا ونَصِيرًا.
* وبلادنا الغالية -ولله الحمد- تزخر بكثير من المواقع الشاهدة على حضارات تاريخية متعاقبة تثبت بأنها مَهدًا وبيئة جيدة احتوتها بطرق معيشتها وتجمعاتها السكانية وأدواتها المنزلية والحربية؛ وتنوع مصدر قوتها وركوبها ومناهلها ومرابعها الرعوية، ويُشير تنوع الكتابات والنقوش المكتشفة إلى أن أرض جزيرة العرب كانت وما زالت تحتضن أعرق الحضارات والسلالات البشرية؛ وموطن عدد من الرسل والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتسليم، وأنك لتعجب -مع كل هذا- أن يفقد البعض الشغف والاهتمام بميراثهم التاريخي الحضاري منذ القدم.
* رحل الأجداد أصحاب تلك الحُقب من الأزمنة غير أنهم تركوا للأحفاد ما إن اعتنوا به لأفادهم علمًا ومعرفة واقتصادًا نافعًا يدوم ما دامت الرعاية والاهتمام به واستثماره على الوجه الأكمل، وهذا ما تفعله الجهات المختصة المعنية بالتراث والسياحة فهي تعمل على حماية وصيانة هذه الآثار العظيمة لتبقى أولًا شاهدًا ودليلًا على عقول وهِمَم وحذق الأجداد؛ ومن ثم فهي مصدر لتعزيز الاقتصاد الوطني وتوظيف الشباب وتطوير مقومات السياحة التي تشهد مؤخرًا ازدهارًا ملحوظًا، إذن فالأجداد الراحلون تركوا لنا مصالح ومصادر ثقافية اقتصادية وفكرية جَمّة من الواجب الحفاظ عليها والإفادة منها.
* فإذا كانت المعالم والمواقع التراثية والآثار هنا قد أسهمت جدًا بالحفاظ على هُويّتنا الثقافية؛ وأنها عامل مهم لفهم تطور وتسلسل الحضارات المجتمعية القديمة ببلادنا؛ وباتت محل جذب سياحي؛ ومقصد الباحثين والزوار وهواة الرحلات والاستجمام من أنحاء العالم؛ فحري بنا جميعًا العمل على تعزيز وتمتين القناعات بأهمية هذه الموروثات الحضارية ولتعزيز الانتماء المجتمعي الوطني؛ ولنعتبر بمن رحلوا لنفكر بما سنترك نحن للأجيال القادمة كأفضل وأرقى نسخة تراثية يشكروننا عليها! وأهم من كل ذلكم الرقي الأخلاقي لتهذيب وتنقية عقول وأنفس الناشئة والشباب من شوائب التنافر والتخاذل بشأن الأسرة والوطن بصفة عامة؛ فتلكم أسس تُبنَى عليها سمعة ومستقبل الأوطان والأمم.