على مدى 114 عاماً من ظهور الكيان اللبناني الأوّل عام 1861 إلى عام 1975، كان المشروع اللبناني فسحةً فريدةً مُضاءةً وسط مشرقٍ سادت فيه المشاريع الاستبدادية والقمعية والآيديولوجيات الشمولية، بالرغم من تعرّض مجتمعه للتجويع والإلغاء الرهيبين في الحرب الكونية الأولى. هكذا، طوال أكثر من قرن من الزمن كان للكيان اللبناني الإسهام الكبير في مجمل الإنجازات النهضوية، الثقافية والتعليمية والعلمية والأدبية والفنية والإعلامية والاقتصادية التي شهدها المشرق، وفي تكريس الحريات والانفتاح على العالم والتفاعل مع الحداثة، وفي تكوين نمط عيش فيه الكثير من التمايز وتحقيق الذات ونوعية الحياة البشرية، بات قبلة أنظار شعوب المنطقة.
ويأتي السؤال: من يمكن أن يعادي هذه «الفسحة المضيئة»، التي لم تحمل معها إلا المعرفة والحرية، ولماذا؟
إذا استندنا إلى المعطيات المنطقية، ثمة طرف واحد يفترض أن يخشى الفسحة اللبنانية هو أحد طروحات الحركة الصهيونية، الذي يرى في المشروع اللبناني المنافس الفعلي لمشروعه، في نواحٍ كثيرة لا مجال الآن للتوسّع فيها.
لكن في الحقيقة، كوكبة أعداء الفسحة اللبنانية أوسع وأبعد من ذلك بكثير. وما يلفت النظر بصورة خاصة، ويثير الاستغراب والعجب، كثرة أعداء المشروع اللبناني داخل الكيان اللبناني نفسه.
لا يمكننا مقاربة ذلك إلا في ضوء التناقض الرئيسي الذي تحكّم في تاريخ الكيان اللبناني منذ نشوئه عام 1861 إلى اليوم: الصراع بين المشروع اللبناني التائق إلى الإفلات من أنظمة المحيط نحو أفق واسع مختلف، والمشاريع الإقليمية المتوالية في لبنان، الجاهدة لإعادة دمجه في أنظمة المحيط.
هكذا تكوّنت على مرّ الزمن أجيال متوالية من جماعات المشاريع الإقليمية في لبنان، التي تعلمت نخبها في مدارس الكيان اللبناني وجامعاته، وتطببت في مستشفياته، وعاشت حرياته الشخصية والعامّة، وعرفت انفتاحه على الحداثة والعالم، ونهلت من تعدديته الفكرية الغنية، وشاهدت جمالية آدابه وفنونه، وحظيت بنمط عيشه... مع ذلك هي تكنّ العداء للنموذج اللبناني وتجاهر برفضها له وتحاربه، في موقف فيه ما فيه من الغرابة ومن الانفصام. ترى لماذا؟
هل المطلوب من النموذج اللبناني، ليصبح مقبولاً ومرغوباً، أن يكون على صورة ومثال إسطنبول السلطان عبد الحميد الثاني، أو سوريا حافظ وبشَار الأسد، أو عراق صدّام حسين، أو مصر جمال عبد الناصر، أو إيران الخامنئي، التي عملت المشاريع الإقليمية في لبنان، بالدعوة السياسية كما بالعنف المسلّح، على التماهي معها؟ أمرٌ عجب. مع ذلك، لا نجد أحداً من دعاة هذه المشاريع اختار العيش في «رحاب» تلك الأنظمة، بديلاً عن النموذج اللبناني المُدان، ليجعل من نفسه قدوةً تُحتَذى؟ تُرى لماذا؟
يبقى التوقف عند فكرتين أساسيتين يتسلّح بهما على الدوام أعداء النموذج اللبناني: الأولى، أن هذا النموذج هو صنيعة «اليمين الانعزالي»، والثانية، أنه صنيعة «الاستعمار الغربي». لنتوقّف قليلاً عند كل منهما.
في المصطلح التاريخي، يجسّد اليسار حركة التقدّم، واليمين حركة الجمود أو التخلّف، فأين نحن في ما نحن فيه من هذا التصنيف؟ هل الحركة اللبنانية، حركة النهضة الفكرية والعلم والمعرفة والحرية وإعلاء شأن الحياة البشرية والانفتاح على الحداثة والعالم هي اليمين المتخلف الانعزالي، و«البعث السوري» و«البعث العراقي» والنظام الإسلامي الإيراني وما يماثلها من أنظمة وآيديولوجيات هي اليسار التقدّمي؟
ثم كيف يكون المشروع اللبناني «صنيعة الاستعمار الغربي»؟ المشروع اللبناني منطلق أساساً من واقع جغرافي ومجتمعي وتاريخي فريد، هو واقع جبل لبنان وموقعه في محيطه. فهل الاستعمار الغربي هو الذي خلق جبل لبنان ووضعه حيث هو؟ وأي جرم ارتكبه مجتمع جبل لبنان في الانفتاح على الحداثة وعلى الغرب منذ آخر القرن السادس عشر، قبل مائتي عام من مجتمعات المشرق؟ هل أخطأ في إرسال أولاده المتفوقين للتخصّص في روما منذ ذلك الحين؟ وإلى أين كان يجب أن يرسلهم، ما دامت فلورنسا وروما والغرب الأوروبي كانت مهد النهضة الحديثة الوحيد، التي أخرجت العالم من القرون الوسطى إلى الزمن الجديد، وعلى مدى قرون طويلة لم يكن من شيء خارجها؟ هل أخطأ مثلاً مجتمع جبل لبنان في التعامل مع فن الطباعة قبل نحو 130 عاماً من سائر أنحاء المشرق العثماني؟ وهل أخطأت بيروت اللبنانية في فتح أبوابها أمام الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية ومستشفى «أوتيل ديو» ومدارس الإرساليات الرفيعة المستوى، على سبيل المثال؟ وهل الحداثة هي الاستعمار، والاستعمار هو الحداثة، ولا فرق بينهما؟