: آخر تحديث

ظمأ في سراب الإبداع الموسيقي

3
2
3

ألا ترى أن العنوان يتجنّى على الإبداع الموسيقي، الذي يجتاح الذوق العربي كالجراد المنتشر؟ الجراد ظريف، يذكّرك بجبنة الغرويير الفرنسية: «كلّما كثرت الجبنة، ازدادت الثقوب، وكلما ازدادت الثقوب، نقصت الجبنة». الجراد أيضاً، كلّما ازداد اتسعت الأرض الجرداء، وكلما كثر التجريد نقصت النباتات. أنت حرّ، إذا انصرف ذهنك إلى الدعابة القياسية: كلّما كثر الفنانون نقص الفن، وكلما ادّعوا التألق، ازداد الفن أفولاً.لكنّ الأوساط الفنية، صارت صعبة المراس. بالأمس، كانت الساحة تحكمها منظومة قيم ومبادئ، وكان الكبار مِحكّاً وحَكَماً، اليوم، «فعاند من تطيق له عناداَ»، فأنت تواجه العلاقات العامّة وترسانة الدعاية والتسويق. أضحى الفنان في غنىً عن التربية الموسيقيّة النظرية والتطبيقيّة. ولّى عهد الثلاثيّات الماسيّة: شوقي، السنباطي، أمّ كلثوم. موسيقانا أمست سيقاناً.المأساة، هي أن الكبار في العقود الستة الأولى من القرن العشرين، وقعوا في خطأ كبير: عملوا لأنفسهم، لم يفكروا في الموسيقى العربية كحاضر ومستقبل، وأجناس تحتاج إلى تطوير نظري وتطبيقي. بذلوا جهوداً رائعةً لنموّهم الشخصي، لم يفكّروا في عاهات الموسيقى وغياب الأجناس. ظلت الآلات خدماً للأوركسترا، والأوركسترا خادمةً للمطربين. الموسيقى مجرّد أداة تعبير سطحيّ عن الكلمات، التي لم يعد أغلبها شعراً، صار ضآلةً وضحالةً. لقد انحدروا بالحبّ والعاطفة إلى قرار لا قرار له، ولا جواب لديهم. إذا قضوا بأن تكون المرأة هي الموضوع الوحيد للأغنية، فإنها تستحق شيئاً أفضل من باقات أشواك يابسة، ففي خزانتها قطاف خمسة عشر قرناً من الغزل العربي.الحلول كثيرة. الموسيقى الأندلسية، كانت عروضاً موسيقيةً متكاملة. كل العرْض في مقام، به فقرات، إيقاعاتها من البطيء إلى السريع. التطوير يسير، في الأوركسترا والكورال. من الهزال الفكريّ أن يتوهّم مستسهلو الإبداع أن سبيل التألق هو التشبّث بتنّورة الموضات الغربيّة. لقد رأينا السرابات الحضارية التي تمغنط عقول فئات من شبيبة العرب، بَنيْنا عليها أحلام نهضة الأمّة، فإذا هي عاقدة العزم على اقتحام المستقبل ببناطيل جينز ممزقة.تبقى الأجناس. المأساة هي أن الآلات خرساء، غير قادرة على التعبير عن نفسها. لا توجد أعمال للكمان، للبيانو، للتشيللو، للناي، للعود... هذه مشكلة حرّيّة تعبير عربية. معضلة فكرية سياسية. الآلات أيضاً لا تستطيع التعبير عن مكنون أخشابها ومعادنها. لكي يدرك المشتغلون بالموسيقى هول الفاجعة، عليهم أن يتخيّلوا استيقاظ العرب على اختفاء الأغاني جميعاً. ماذا يتبقّى من الموسيقى العربية؟ تلك هي الكارثة الكاريكاتوريّة. الغرب لديه خمسمئة عام من الموسيقى السيمفونيّة. شتّان.لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: يجب الخروج من سراب البدع الموسيقية، إلى سرب الإبداع الموسيقي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد