يشهد الشرق الأوسط تحولات هائلة ومتسارعة في بنية التوازنات الإقليمية، تعيد تشكيل معادلات القوة والنفوذ وفق خرائط تحالفات جديدة. هذه التحولات يمتد تأثيرها ليتصل بالقوقاز وآسيا الوسطى. ذلك أن الفراغ الاستراتيجي الناجم عن انحسار نفوذ إيران واتخاذها وضعية الدفاع غداة الحرب الإسرائيلية الخاطفة، التي تدخلت فيها أميركا، حفز قوى ناشئة على التوثب للعب أدوار إقليمية كبرى.
في طليعة هذه القوى تبرز أذربيجان، التي تحتل مكانة بارزة ضمن سياسات الاتحاد الأوروبي وأميركا لتقويض الجيوبوليتيك الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى، وقطع شرايين التواصل وخطوط التجارة والإمداد بين الصين وروسيا. منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، ازداد اهتمام بروكسل بهاتين المنطقتين الحيويتين، وخصوصاً جنوب القوقاز التي تعد من الشرايين التي تغذي القارة العجوز بالإمدادات من النفط والغاز كبديل عن روسيا.
سيناريو أوروبي مجرب
تشير التقارير إلى أن أوروبا، ولا سيما بريطانيا صاحبة الإرث العريق في حياكة خرائط النفوذ الجيوسياسي وتطريزها، دون التورط المباشر فيها، تشجع أذربيجان على مد نفوذها في المنطقة كي تصبح القوة الإقليمية الأبرز في جنوب القوقاز، والتحرر من علاقاتها التاريخية مع روسيا، وذلك بالشراكة مع إسرائيل التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع باكو منذ سنوات طويلة.
هذا السيناريو الذي يغازل طموحات توسعية لدولة تتمتع بالعديد من أدوات القوة والنفوذ، يرمي في مقاصده إلى استكمال حلقات الضغط الشديد على إيران، والعمل على تفتيت بنيان النظام الذي أسسته الثورة الإسلامية عام 1979 من الداخل، عبر تحريك ورقة الأقليات العرقية، وخصوصاً الأذرية. على أن يكون العنوان هو ممر "زانجيزور" الاستراتيجي، الذي يربط أذربيجان بجمهورية "ناختشفان" الأذرية، التي تتمتع بالحكم الذاتي ضمن الأراضي الأرمينية، ويسهم في ربط أنقرة بالجمهوريات التركية في آسيا الوسطى.
وسبق أن حاولت باكو توظيف التحولات في معادلات القوة الناشئة عن حربها الخاطفة على أرمينيا، واسترجاعها إقليم "ناغورنو كاراباخ"، كورقة ضغط لفتح هذا الممر، إلا أن إيران لوحت باستخدام القوة العسكرية للحؤول دون حصول ذلك.
ويبدو أن باكو وضعت هذا السيناريو موضع التنفيذ، حيث أقدمت على إجراء انعطافة هائلة في علاقاتها التاريخية مع موسكو، بدأت تظهر علائمها مطلع السنة الحالية، مع إعلان وزارة الخارجية الأذرية تعليق أنشطة وكالة سبوتنيك الروسية وارتفاع الشحن القومي الموجه عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً ضد موسكو.
تطور الأمر إثر قيام قوات الأمن الروسية بمداهمة عائلة ذات جذور أذرية مؤخراً، مما أدى إلى مقتل اثنين وجرح آخرين، بالإضافة إلى اعتقال أفراد منها، فردّت باكو بعنف عبر حزمة من الإجراءات المتدرجة، التي تعزز من تثبيت التحولات في سياستها الخارجية، وتقربها أكثر من بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو" في الوقت عينه.
انفجار العلاقات الأذرية - الروسية
يشير تقرير نشره موقع "ميدل إيست أي" البريطاني إلى أن العلاقات مع روسيا بلغت حد الانفجار، حيث استخدمت باكو الخلاف المشار إليه من أجل إضعاف النفوذ الروسي في المنطقة. كما يبين بالاستناد إلى مصادر دبلوماسية، أن أذربيجان استغلت ضعف إيران بعد الحرب للتمتع بحرية أكبر في التعامل مع المطالب الروسية خصوصاً في شأن السلام في القوقاز.
تأكيداً على ذلك، رفض الرئيس الأذري إلهام علييف مقترح نظيره التركي رجب طيب إردوغان خلال زيارة الأول إلى أنقرة في 19 تموز (يوليو) من أجل الاجتماع برئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الذي وصل العاصمة التركية في اليوم التالي. ومع أن تركيا تبدو في دائرة أكثر المستفيدين من هذه التطورات، إلا أن ذلك يتناقض مع أهداف سياستها الخارجية الرامية إلى أن تكون قوة ضامنة للاستقرار في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، بما يسهم في تثبيت حضورها، وتعزيز تدفقاتها التجارية.
في موازاة ذلك، ازدادت ريبة طهران تجاه جارتها. وبالرغم من تأكيدات باكو أن أراضيها لم تكن قاعدة لتحضيرات العمليات الإسرائيلية، ولا مسرحاً لطائراتها، إلا أن الأولى تجمعت لديها بعض الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك. كما أماطت بعض التسريبات اللثام عن ضغوط أذرية على إسرائيل عبر قنوات مختلفة، رامت تحييد المناطق والحواضر ذات الأكثرية الأذرية وعدم استهدافها، وخصوصاً مدينة "تبريز".
ومع ذلك، فإن هذا السيناريو الذي تدفع أوروبا باتجاه تطوره، ببصمة بريطانية عميقة، يكتسي بالكثير من الخطورة، ويهدد بانفجار المنطقة وتحولها إلى بركان مشتعل قد يصعب إخماده. ذلك أن باكو تقترب من شن حرب جديدة على أرمينيا من أجل الاستيلاء على ممر "زانجيزور" وفرض أمر واقع، مع ما لذلك من تأثير كارثي، أكان من ناحية توسع رقعة الصراع في العالم، أم من ناحية الخسائر البشرية وارتفاع أعداد المهاجرين إلى غرب أوروبا، أم من ناحية توقف سلاسل الإمداد والتوريد، ولا سيما النفط والغاز، وانعكاساتها على الاقتصاد الأوروبي المترنح.
والحال أن تعامل بروكسل مع انفتاح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على روسيا يتسم بالكثير من التهور، حيث تحاول فرض حضورها كشريك على طاولة المفاوضات من خلال تسعير قيم الصراع في أوكرانيا، وتفجير صراعات جديدة تتوسم من خلالها إرباك موسكو، ناهيكم عن دخولها على خط الأزمة مع إيران مما يعد خاصرتها الرخوة أي أذربيجان لتفجير صراعات داخلية يصعب التنبؤ بمآلاتها.
وحدة المذهب والتشابك العرقي
يبلغ عدد سكان إيران نحو 88 مليون، وتشتمل على خليط من العرقيات، تشكل الفارسية فيها الأكثرية بنسبة تتجاوز 51 بالمئة حسب كتاب "حقائق العالم" الصادر عن الاستخبارات الأميركية، وتعد مركز العصب الحيوي للنظام ودولته العميقة، فيما تشكل الأذرية نسبة تتراوح بين 16 إلى 20 بالمئة، إلى جانب عرقيات مثل الكردية والعربية والبلوشية وحتى اليهودية.
في المقابل، فإنَّ أذربيجان لديها حدود مشتركة مع إيران تبلغ نحو 689 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها نحو 10 ملايين نسمة ونيف، تشكل العرقية الأذرية فيها نحو 90 بالمئة. ومع أنها جمهورية علمانية، إلا أن 93 بالمئة من سكانها من المسلمين، حسب البيانات الرسمية، ينتمي 85 بالمئة منهم إلى المذهب الشيعي الإثنا عشري، فيما الـ15 بالمئة الباقية ينتمون إلى أهل السنة والجماعة.
والأذرية هي واحدة من العرقيات المنتمية إلى قبائل "الأوغوز" التركية، التي قدمت إلى المنطقة بعد معركة "ملاذكرد" عام 1071، ومذاك صارت تشكل أكثرية السكان في البلاد التي حكمتها عدة سلالات تركمانية، وكذلك شكلت لغتها وثقافتها وتراثها.
غداة توقيع معاهدة "تركمنجاي" عام 1828 بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، حصلت الأخيرة على الأراضي الواقعة شمال "نهر آراس"، لتظهر "أذربيجان الشمالية" التي تشكل جمهورية أذربيجان الحالية، يقابلها على الضفة الأخرى "أذربيجان الجنوبية"، وهي محافظة تقع شمال غرب إيران. ولطالما غازل حلم توحيد الأذر في الضفتين عائلة علييف التي تحكم البلد الغني بالموارد الطبيعية مثل الغاز والنفط منذ عام 1993، أي بعد استقلالها الرسمي عن الاتحاد السوفياتي بسنتين، حتى يومنا هذا.