: آخر تحديث

هل للسينما أن تتفلسف؟

2
1
2

هناك وجهان لعلاقة السينما بالفلسفة. الأول، أن تكون شارحة لفلسفة تاريخية، وقد استعرضنا نماذج من ذلك في صحيفتنا هذه. الثاني، أن تمارس السينما نفسها دور التفلسف. وهذا يعني أمرين على الأقل: استخدام الفيلم من أجل تسليط الضوء على المواقف والأفكار والأسئلة الفلسفية، وهذا بحد ذاته ممارسة للفلسفة، والفلسفة من خلال الفيلم ستتحول ببساطة إلى المزيد من الفلسفة. ويُمكن للسينما حرث قضايا فلسفية مثل الشك واليقين والمعرفة، بل حتى التعبير عن مواقف ووجهات نظر مُستنيرة فلسفياً.

الرأي الآخر هو أن الوجه الثاني غير ممكن، لأن السينما غامضة بطبيعتها، ولا تُقدم الدقة اللازمة لتوضيح الادعاءات الفلسفية والدفاع عنها. وهناك اعتراضات على تفلسف السينما بسبب التشابه المُتصوّر بينها وبين كهف أفلاطون. واعتراضات أخرى نشأت عن انتقادات أفلاطونية لقدرة الفن الروائي على كشف الحقيقة. غير أن نبذ أفلاطون للفنانين أمرٌ مُتناقض، نظراً لأن أفلاطون نفسه فنانٌ عظيم.

في مقابل هذه الاعتراضات، تُطرح آراء جريئة حول قدرة السينما على ممارسة التفلسف، مفادها أن الكثير مما يُمكن إنجازه باللفظ والكتابة يُمكن إنجازه أيضاً بالسينما. بل إن هناك نوعاً مُميّزاً من التفكير والتعبير السينمائي يختلف عن إعادة الصياغة بمصطلحات فلسفية تقليدية. سينما وودي آلن تفعل هذا، فهي أكثر من مجرد شرح لفكر سابق، بل تلعب التجارب الفكرية الجديدة دوراً في النقاشات، حيث يُطلق العنان للتأمل الفلسفي، وتُطرح الأسئلة، ويُشكك في الآراء القائمة، من خلال سياق أمثلة مُضادة، واستكشاف جوهر مفهوم ما، وتأكيد نظرية أو مساهمة في بنائها.

وقد تتفلسف السينما بشكل أفضل من الطرق الفلسفية التقليدية. لنا أن نتذكر كيف يصوّر تيرنس ماليك الوجود الزائف مع الآخرين والثرثرة، نظرية هايدغر، من خلال مشهد رجل يخدع امرأة بعبارات الحب، أو جندي في الحرب ينتظر العودة إلى الوطن فتفاجئه زوجته بطلب الطلاق قبل أن تنتهي الحرب، فيظهر في تلك المشاهد الجميلة الحزينة معنى العيش في الزيف، ويتعمق بطرائق جديدة.

تتناقض فكرة التفلسف من خلال السينما بشكل واضح مع الرأي القائل بأن الفيلم لا علاقة له بالفلسفة، وأن الفيلم في الواقع هو المقابل السيئ للفلسفة، إذ يحتوي على كل ما هو غريب أو مشكوك فيه من وجهة نظر العجوز الحكيمة، وأن السينما فتاة جميلة لكن بيّاعة وهم، ومُصمَمة فقط للتسلية. هذا الموقف يعتمد على وجود رؤية مُحددة لما يُشكّل الفلسفة، مع أن كل تعريفاتها موضع شك واختلاف... فعن أي سينما يتحدثون؟

رفض السينما لكونها غير فلسفية بطبيعتها هو جوهر «الاعتراض الأفلاطوني» على هذا التفلسف. ولكن ثمة تناقضات عديدة تقع عندما يجري التمييز بين الفلسفي وغير الفلسفي، بين التأمل والتجربة، والواقع والوهم، والشمولية والخصوصية، وكلها تجد مرجعيتها عند العجوز أفلاطون. ويمكن فهم سبب الاعتراض من «رمزية الكهف» في «الجمهورية».

أصحاب أفلاطون أخطأوا في اعتبار ما هو في الواقع مجرد ظلال مُسقطة على جدار الكهف، «حقيقة». وعند أفلاطون، كل الصور والتمثيلات المرئية غير كافية كمصدر للمعرفة. والتنوير الفلسفي يتطلب التفكير والتأمل النقدي، بدلاً من الاعتماد على الطريقة التي تظهر بها الأشياء لنا. رغم أن هذا الاعتماد هو مشروع هوسرل، الفينومنولوجيا. وأن كهف أفلاطون يتكرر كثيراً في سينما بيرناردو بيرتولوتشي للفت الانتباه إلى أسر الناس في أوهام الآيديولوجية الفاشية.

هناك أيضاً رفض ضمني أفلاطوني للفنون الخيالية بحجة متاجرتها بالتمثيلات غير الواقعية وتعزيز الوهم. وفقاً لهذا التصور يُعدّ الفيلم عالماً من الوهم والغواية، يختلط على الجمهور بالواقع. ويتجلى هذا الرأي، من بين مواضع أخرى، في النظرية السيميائية الماركسية أو التحليلية النفسية التي سادت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والتي ترى أن السينما السردية هي صورة من الأوهام البرجوازية، وكان ماركس يتشكك في كل علم وفن يأتي من الرأسماليين.

فيما رأي آخرون أن السينما قادرة على أكثر من أن تكون صدى للآيديولوجيات السائدة التي تُشوّه الواقع الاجتماعي وتُطمسه، ويُظهر الفحص الدقيق للأفلام الفردية كيف يُمكن تسليط الضوء على أساليب التفكير ونقد الممارسات الاجتماعية السائدة ضمن إطار سينمائي، من خلال السخرية، مثلاً. وهذا يعني أن الفيلم قادر على تبنّي موقف تأملي تجاه ما يستعرضه.

من جهة أخرى، إذا كانت رواية بيكون «أطلنطس الجديدة» قد تنبأت في القرن الـ16 بصناعة السيارات وأجهزة التكييف والهاتف والتلفزيون، فلا بأس أن نعدَّ أفلام الخيال العلمي نوعاً من التفلسف والوعد المستقبلي. السرديات والسيناريوهات الملموسة في صورة تجارب فكرية ليست غريبة على الفلسفة، وبالمثل، لا يوجد سبب يمنع أفلام الخيال من طرح أسئلة فلسفية. سينما الخيال العلمي لا تخضع للفلسفة القديمة. إنها تمارين فلسفية، أي الفيلم كفلسفة. ومن المنطقي القول إن بعض الأفلام تعمل مثلما تعمل التجارب الفكرية، وإلى الحد الذي يمكن اعتبارها فيه فلسفية.

ثمة اعتراض آخر يقول إن السينما مشغولة بالخيال بينما تُعنى الفلسفة بالحقائق الكونية. فكيف يُمكن للفيلم، وهو غارق في التفاصيل، أن تكون له أي علاقة بالفلسفة؟ هذا الاعتراض قُلب فوراً، رأساً على عقب عندما وجدنا أن السرديات الخيالية يُمكن العثور عليها بسهولة في النصوص الفلسفية نفسها، المشبعة بالميتافيزيقا. قصة كهف أفلاطون هي في حد ذاتها تجربة فكرية، سرد يجسد صورة وسيناريو لا يُنسيان، مصممان لإثارة أسئلة عامة حول دور التجربة الحسية، وطبيعة المعرفة، وطبيعة التنوير الفلسفي نفسه. ومن المفارقات أن أفلاطون يلجأ إلى «سرد» يجسد صورة لا تُنسى، من أجل القول بأن الصور ليس لها مكان في الخطاب الفلسفي! وحقاً، هو يستخدم سرداً يساعد في إنشاء سرد أكبر يُنظر فيه إلى الفلسفة نفسها، على أنها تنشأ من خلال رفض السرد لصالح خطاب عقلاني مكرّس للحقائق الكلية!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد