: آخر تحديث

سوريا في براثن التجييش الطائفي: من الجذور إلى آفاق الحل

1
1
1

ألقت الأحداث الأخيرة في الساحل السوري والسويداء بظلالها الكثيفة على المشهد السوري، مبرزةً من جديد ظاهرة التجييش الطائفي التي لا تزال تنخر في جسد المجتمع والدولة. هذه الظاهرة، ليست وليدة اللحظة، بل هي إفراز لتراكمات تاريخية وسياسية واجتماعية عميقة، تحمل في طياتها تداعيات كارثية تهدد النسيج الاجتماعي والسياسي الهش في البلاد. يتطلب فهم هذه المعضلة تحليلًا معمقًا لجذورها والفاعلين المحركين لها وآثارها المدمرة بالإضافة إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية وتقديم توصيات عملية لمواجهتها.

جذور التجييش الطائفي:
تتغذى ظاهرة التجييش الطائفي في سوريا على تربة خصبة من العوامل المتشابكة، التي تشكلت عبر عقود من الزمن:

الأسباب التاريخية:
يُعد إرث الانتداب الفرنسي نقطة انطلاق جوهرية، حيث أسهمت سياساته في ترسيخ تقسيمات إدارية واجتماعية تعزز الولاءات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. علاوة على ذلك، فاقمت سياسات التهميش التي اتبعتها الأنظمة المتعاقبة من هذه الانقسامات، مما أوجد بيئة مواتية لنمو الاستقطاب الطائفي وتجذره في الوعي الجمعي.

العوامل الاجتماعية:
شهدت سوريا تحولات ديموغرافية واجتماعية كبيرة أدت إلى تركز تجمعات سكانية ذات خلفيات طائفية أو مناطقية معينة. وبالتالي خلقت هذه التحولات بيئة اجتماعية قد تكون عرضة للانقسام، مما سهّل بروز الولاءات الفرعية وتفضيلها على الانتماء الوطني الأوسع.

الديناميكيات السياسية:
لعب النظام السوري البائد دورًا محوريًا في استغلال هذه الولاءات الطائفية كأداة للحفاظ على سيطرته، وذلك عبر تطبيق سياسات "فرّق تسد" التي أضعفت من التلاحم المجتمعي. كذلك شهدت الفترة التي سبقت الثورة السورية وفي أثنائها صعودًا غير مسبوق للخطاب المذهبي والطائفي والعرقي المتشدد، الأمر الذي غذى الانقسام ووسّع من الهوة بين مكونات المجتمع.

الفاعلون الرئيسيون:
لا يمكن فهم مدى تعقيد ظاهرة التجييش الطائفي دون تحديد الأطراف المتعددة التي تغذيها وتستفيد من تداعياتها:

أ. أطراف محلية:
في طليعة هذه الأطراف تأتي الجماعات المسلحة المتطرفة المنخرطة في الجيش السوري الجديد، التي تعتمد في تجنيدها وأيديولوجيتها على خطابات طائفية متشددة تدعو للكراهية والإقصاء. هذا بالإضافة إلى أحزاب الإسلام السياسي التي تستغل الانقسامات الطائفية ببراغماتية لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة أو تعزيز نفوذها على حساب المصلحة الوطنية العليا. ولا يمكن إغفال دور شخصيات دينية وسياسية ذات نفوذ تُسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في نشر الكراهية وتأجيج مشاعر التعصب من خلال خطاباتها التحريضية أو ممارساتها التي تزيد من الشرخ المجتمعي.

ب. أطراف إقليمية ودولية:
يتسع نطاق التأثير ليشمل دولًا داعمة لجماعات معينة، تتدخل في الشأن السوري لدعم أطراف مرتبطة بمرجعيات طائفية، وذلك لتحقيق مصالح جيوسياسية خاصة بها. علاوة على ذلك، توجد منظمات إقليمية ذات أجندات طائفية تسعى لتعزيز نفوذها عبر استغلال الانقسامات في سوريا لتحقيق أهدافها الإقليمية التوسعية. وفي سياق أوسع، تستخدم قوى دولية تتنافس على النفوذ الورقة الطائفية كأداة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في المنطقة، مما يزيد من تعقيد الأزمة السورية ويدفعها نحو مزيد من الانقسام.

تأثيرات التجييش الطائفي:
لا يقتصر تأثير التجييش الطائفي على الجانب الأمني فحسب، بل يمتد ليشمل كافة جوانب الحياة في سوريا، مخلفًا دمارًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا:

على النسيج الاجتماعي:
يمثل التجييش الطائفي تهديدًا مباشرًا لتآكل الهوية الوطنية، حيث يضعف الانتماء الوطني المشترك لصالح الولاءات الطائفية الضيقة، مما يقوّض أساس الوحدة الوطنية. علاوة على ذلك، يؤدي إلى ازدياد الكراهية والعداوة بين مكونات المجتمع السوري، مما يهدد السلم الأهلي ويفتح الباب أمام مزيد من العنف. ونتيجة لذلك، تشهد العلاقات الاجتماعية تفككًا واسعًا، حيث تنهار الروابط التقليدية التي جمعت بين أبناء المجتمع الواحد، وتتزايد العزلة بين الطوائف، مما ينذر بتفتت مجتمعي خطير.

التداعيات السياسية:
على الصعيد السياسي، يؤدي التجييش الطائفي إلى عرقلة الحل السياسي، حيث يعقّد جهود التسوية والمصالحة الوطنية، ويجعل من الصعب التوصل إلى حل شامل للأزمة يرضي جميع الأطراف. من ناحية أخرى، يهدد تفتيت الدولة السورية ووحدة أراضيها وتماسك مؤسساتها، مما قد يؤدي إلى مزيد من التشظي والانهيار. وبالإضافة إلى ذلك، يعيق صعوبة إعادة الإعمار جهود التعافي والبناء بسبب غياب الثقة المجتمعية وانعدام التوافق الوطني الضروري لإعادة بناء البلاد. كل هذه العوامل تزيد من تحديات مستقبل الحكم، حيث يصبح من الصعب تشكيل حكومة شاملة ومستقرة تمثل جميع أطياف المجتمع السوري وتتمتع بالشرعية اللازمة لإدارة شؤون البلاد.

السيناريوهات المستقبلية:
في ظل استمرار التجييش الطائفي وتداعياته، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل سوريا، لكل منها تبعاته:

استمرار التجييش:
يشير هذا السيناريو إلى تفكك أكبر للبلاد مع سيطرة الميليشيات الخارجة عن القانون على مناطق واسعة، وغياب تام للاستقرار والأمن، مما يؤدي إلى استمرار دورات العنف والصراع اللانهائي.

تراجع بطيء:
يتضمن هذا المسار جهود مصالحة متفرقة ومتقطعة يمكن أن تحقق استقرارًا نسبيًا في بعض المناطق. ومع ذلك، ستظل هناك تحديات كبيرة متعلقة بإعادة بناء الثقة المجتمعية وإصلاح النسيج الاجتماعي.

مصالحة شاملة:
يُعد هذا السيناريو الأكثر إيجابية وتفاؤلًا، فهو يتطلب بناء نظام حكم عادل وشامل يعيد بناء الثقة بين المكونات السورية، ويسهم في بناء مجتمع متسامح يعلي من قيمة التنوع والعيش المشترك كركائز أساسية للدولة السورية الموحدة.

توصيات لمواجهة التجييش الطائفي:
تتطلب مواجهة هذه الظاهرة المدمرة جهدًا متكاملًا ومنسقًا على مستويات عدة لضمان مستقبل مستقر ومزدهر لسوريا:

أولاً: على المستوى المحلي

1. يجب تعزيز الحوار المجتمعي بين مختلف مكونات المجتمع السوري بهدف بناء التفاهم المشترك ونبذ الكراهية وتفكيك الروايات الطائفية السائدة، وذلك من خلال إشراك كافة مكونات الشعب السوري في القرارات الوطنية.

2. يتعين دعم مبادرات المصالحة على مستوى القواعد الشعبية والتي تعمل على بناء الثقة وإصلاح ذات البين بما يسهم في إعادة اللحمة الاجتماعية.

3. لا بد من تطوير مناهج تعليمية جامعة تغرس قيم التسامح والمواطنة الحقة وتنبذ التعصب وتُعزز الانتماء الوطني المشترك.

ثانياً: على المستوى الإقليمي

1. من الضروري وقف التدخلات الخارجية الإقليمية التي تغذي الصراعات الطائفية وتدعم أطرافًا معينة لأطماع توسعية، حيث إن هذه التدخلات تزيد من تعقيد المشهد السوري.

2. يجب تشجيع الحلول السياسية السلمية التي تقوم على أساس التوافق والمصالحة الوطنية الشاملة، بعيدًا عن الإملاءات الإقليمية الخارجية.

3. يلزم دعم جهود إعادة الإعمار التي تسهم في استقرار المناطق وتحسين الظروف المعيشية، مما يقلل من دوافع الانقسام ويوفر بيئة مواتية للتعافي.

ثالثاً: على المستوى الدولي

1. يجب على المجتمع الدولي فرض عقوبات على مروجي الكراهية من الأفراد والكيانات الذين يغذون الصراعات الطائفية، لردعهم عن الاستمرار في ممارساتهم.

2. ينبغي دعم المؤسسات السورية التي تعمل على ترسيخ حكم القانون وتعزيز الوحدة الوطنية دون غيرها، وتوفير الدعم اللازم لتمكينها من أداء دورها.

3. يجب توفير المساعدات الإنسانية لجميع السوريين دون تمييز للمساهمة في استقرار المجتمع وتلبية الاحتياجات الأساسية.

خاتمة:
إنَّ مواجهة التجييش الطائفي في سوريا ليست مجرد تحدٍ أمني أو سياسي، بل هي معركة وجودية تهدف إلى الحفاظ على هوية سوريا وتماسك مجتمعها وتنوعه الفريد. وتقع المسؤولية الكبرى في ذلك على عاتق الدولة السورية ومؤسساتها. وتتطلب هذه المواجهة جهدًا متكاملاً ومنسقًا من كافة الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، لضمان مستقبل مستقر ومزدهر لسوريا يحافظ على وحدتها وتنوعها ويعود بالسلام والرخاء على جميع أبنائها.

والسؤال العريض: هل تستطيع القيادة السورية الجديدة أن تتجاوز هذه الانقسامات العميقة وتبني مستقبلًا يرتكز على الوحدة والتسامح؟ هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهها اليوم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.