في لحظة صفاء، حين يجلس الإنسان مع نفسه ويضع يده على قلبه، قد يسأل سؤالًا بسيطًا في ظاهره، عميقًا في جوهره
هل أنا مَن يُحرّكني؟ أم أن هناك خيوطًا لا أراها… تتحكم في مصيري، وتحدد خطواتي، وتختار لي حتى خياراتي؟
استدعيت هذا السؤال بعد أن شاهدت فيديو تعبيريًا مؤثرًا عرضه الصديق الأستاذ/ علي البحراني – بورضوان، عن دُمية تُحرّكها الأيدي من خلال خيوط. واختتمه بتساؤل ذكي:
هل نحن أيضًا دُمى؟ وهل لو قطع أحدنا تلك الخيوط يستطيع أن يتحرك؟
هذا التساؤل لا ينطبق على الأفراد وحدهم، بل ينطبق – وبحدة – على أوطان ومجتمعات، وعلى وجه الخصوص: منطقتنا العربية التي لم تعرف الاستقلال التام منذ قرون، وإن بدت في الظاهر ذات أعلام وحدود وجيوش.
هل نحن مجرد عرائس تُحرّكها خيوط ظاهرة وأخرى خفية؟ وهل إن قطعنا تلك الخيوط نتحرر؟ أم نتحول إلى "أثرٍ بلا عين"؟
الخيوط التي تُحرّك منطقتنا
ما أكثر الخيوط التي تتحكم بنا! خيوط دولية، إقليمية، دينية، اقتصادية، إعلامية… كلها تعمل بتزامن مدهش أحيانًا، وتتضارب في لحظة أخرى، لتُبقي هذه المنطقة في حالة:
"حركة بلا حراك، وصخب بلا سيادة."
1. الخيط الدولي
منذ الحرب العالمية الأولى، لم تخرج منطقتنا من عباءة القوى العظمى. من سايكس–بيكو 1916، إلى وعد بلفور، ثم "الاستقلالات المصطنعة"، فاحتلال العراق، وصولًا إلى ثورات الربيع العربي التي – وإن بدت شعبية – فقد تداخلت فيها أصابع أمريكية وروسية وتركية وإيرانية وإسرائيلية على حدّ سواء.
2. الخيط الاقتصادي
متى انخفضت أسعار النفط، ارتعشت الميزانيات. متى عطست أمريكا أو الصين، أصيبت الأسواق العربية بالزكام. الاعتماد على الاقتصاد الريعي جعل بعض الدول أسرى لعائدات لا تملك قرارها، واستثماراتٍ مرهونة بولاءاتٍ سياسية.
3. الخيط الديني–المذهبي
من قم إلى إسطنبول، ومن جماعات الإسلام السياسي إلى اليمين الديني المتصاعد، تحوّل الدين إلى أداة تحريك واستقطاب. خيوط تمزق الداخل باسم العقيدة، وتُستثمر خارجيًا تحت شعار "مكافحة الإرهاب".
4. الخيط الإعلامي–الرقمي
منصات التواصل لم تعد مجرد أدوات تعبير، بل خيوط رقمية تضبط إيقاع الغضب والسكوت، وتُمرّر رسائل الجهات المموّلة أو المسيطرة. تم تحريك الشارع العربي مرارًا، لا ضد الظالم، بل ضد نفسه.
هل نجرؤ على قطع الخيوط؟
السؤال الأخطر: هل نستطيع الحياة بلا هذه الخيوط؟
▪ هناك دول قطعت خيوطها – أو ظنت أنها فعلت – فسقطت في الفوضى، وتحولت إلى "جثث سياسية" لا تملك قرارًا داخليًا أو خارجيًا.
▪ ودولٌ أخرى تمسّكت بالخيوط كاملة، فاستمرت… لكنها فقدت روح الاستقلال ومبرر الوجود الحر.
▪ بينما حاولت قلة نادرة أن تمسك الخيط من الطرف الآخر، لتعيد تشكيل المسار. وهذه هي النماذج الجديرة بالتأمل.
الاستقلال ليس الانعزال… والقطع ليس انتحارًا
لسنا في زمن يمكن فيه الانفصال الكامل عن العالم، لكننا في زمن يجب أن نُحسن فيه اختيار من يمسك بطرف الخيط.
ولعلّ السؤال الجوهري الذي يستحق الطرح هو:
هل هناك مسار ثالث؟ لا هو استسلام، ولا هو قطيعة عمياء؟
نماذج من صناعة الخيط الذاتي
التاريخ يُعلّمنا أن التحرر لا يكون بالصراخ ولا بالشعارات، بل بصناعة خيوطنا الذاتية:
اليابان بعد الهزيمة: تجاوزت القنبلة النووية بصناعة نهضة تعليمية–صناعية استثنائية.
ماليزيا تحت قيادة مهاتير محمد: رفضت إملاءات صندوق النقد، وبنت اقتصادًا متنوعًا مستقلاً.
فنلندا في ظل تهديد الجار الروسي: حافظت على سيادتها دون صدام، بتوازنٍ ذكي بين التعليم والتكنولوجيا والدبلوماسية.
منطقتنا: بين الوهم والاحتمال
للأسف، بعض دولنا تعلن أنها "قطعت الخيوط" بينما:
· تستورد حتى دبابيس المظلات.
· ترففع شعارات الكرامة، وهي مرتهنة لتمويلٍ خارجي أو حمايةٍ عسكرية.
· تخلط بين الاستقلال والعداء، وبين الشراكة والتبعية.
الخلاصة: كيف نُمسك بخيوطنا؟
لسنا بحاجة إلى وهم "التحرر الكامل"، بل إلى مشروع وطني وعربي يمسك بالخيط بوعي:
عبر:
1. اقتصاد منتج لا يقوم على مورد واحد.
2. نظام تعليمي يصنع العقول الحرة، لا العقول المؤدلجة أو المستعبدة.
3. دبلوماسية تحمي المصالح بلا انحناء ولا تحدٍ عبثي.
4. مجتمع مدني يراقب السلطة ويحمي القرار من الخارج ومن الداخل.
تأمل ختامي
لا نطلب قطع الخيوط كمن يقطع حبل النجاة وهو في عرض البحر، بل نطلب أن ننسج خيوطنا بأيدينا، ونختار من نتحالف معه، ونحمي قراراتنا من أن تكون مجرد ارتدادات لإرادات غيرنا.
كلماتي هنا ليست تشاؤمًا، بل صرخة يقظة.
الخطر الأكبر ليس في وجود الخيوط، بل في أن نظل نجهلها، أو نُنكرها.
فالتحرر الحقيقي يبدأ حين نرفض أن نكون إمّا عبدًا أو جثة… ونصرّ على أن نكون بشرًا يصنعون قدرهم.