: آخر تحديث

الاستعمار الإعلامي.. وحرية الرأي

6
6
5

ما فرحنا به وظنناه نافذة حرية لم يكن سوى قضبان مُحكمة كرَّست استعماراً جديداً وهيمنة خفية وزيفاً إعلامياً جديداً، هل سألت يوماً لماذا لا ينتشر المحتوى الذي يُظهر معاناة أهل غزة في الإعلام الرقمي؟ بينما تبرز الرواية الإسرائيلية، حتى لو كانت مُضللة؟
في الماضي كان الاستعمار يُمارس بالأساطيل والجيوش لنهب الثروات والسيطرة على الشعوب، لكن الإعلام الجديد جاء بشكل مختلف من الاستعمار لا يحتاج جندياً أو مدفعاً، بل يُمارس عبر كابلات الإنترنت والخوادم العملاقة والبيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، يُعّرف هذا النمط ب«الاستعمار الإلكتروني»، تطال قيود هذا الاستعمار الكثير من نواحي الحياة، من الاجتماعية إلى الاقتصادية وأهمها.. الحرية الإعلامية، هو استعمار لا يُرى بالعين المُجردة لكنه يتحكم بحياتنا من خلال تحّكمه بالبيانات الشخصية والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية وصولاً إلى المحتوى الإعلامي.
تعود جذور هذا الاستعمار الجديد إلى الهيمنة الرقمية التي تقودها الولايات المتحدة فهي القائد في هذا المجال منذ الستينيات من القرن الماضي، حيث قادت هندسة الشبكة العالمية وما زالت تتحكم في بنيتها العميقة حتى اليوم رغم ما يشاع عن «حرية الإنترنت»، فأمريكا هي التي تتحكم في أسماء المواقع والنطاقات. مثل.com و.net كما أن كابلات الإنترنت البحرية معظمها تدار بمنظمات وشركات مثل: «غوغل» و«ميتا» و«مايكروسوفت» وغيرها وهي كلها أمريكية، حتى منصات «تيك توك» الصينية و«تليغرام» الروسية تمر عبر الكابلات ذاتها وهذا يوضّح لماذا أصبحت معظم الأخبار والمحتويات الرقمية تمر تحت رقابة ما ينتشر وما يُخفى في هيمنة ثقافية وإعلامية مُعلنة وعندما نسأل من يملك الإنترنت؟ يأتينا جواباً ضبابياً..
الإنترنت ليس «مملوكاً» لجهة واحدة، لكنه تحت سيطرة هرم مُعقد من المنظمات والشركات الأمريكية التي تهيمن على الحوسبة والبيانات والإعلانات والذكاء الاصطناعي وأجهزة التشغيل والاتصال والأهم مِنصات التواصل الاجتماعي، هذه الشركات تتحكم فعلياً في حياة مليارات المستخدمين وتحتكر الإنترنت.
الاستعمار الإعلامي لم يولد مع العصر الرقمي، بل هو امتداد لمسار طويل من السيطرة على تدفق المعلومات، فقبل أن تظهر هذه الشركات المُهيمنة اليوم، كانت الحكومات والقوى الاستعمارية التقليدية تمارس استعماراً إعلامياً مباشراً عبر التحكم في وكالات الأنباء والصحف والإذاعات في إطار استراتيجيات الحرب الباردة. ومع ظهور الإنترنت لم يختلف هذا الاستعمار، بل تطور وتحول إلى استعمار ناعم وخفي تقوده شركات تكنولوجية عملاقة تُمَّول وتُحمَى عادة من الحكومات. لتعيد إنتاج الهيمنة ذاتها، ولكن بأدوات أكثر تطوراً وفعّالية.
بدأ الاستعمار الإعلامي عبر وكالات الأنباء التقليدية، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث ولدت هذه الوكالات في دول استعمارية. مثل «فرانس برس» و«رويترز» و«اسوشييتد برس» و«يونايتدبرس» وغيرها، كانت بمثابة أدوات رسمية وغير رسمية لخدمة مصالح دول الاستعمار التي كانت تهيمن على تدفق الأخبار نحو العالم الثالث. بقيت هذه الهيمنة حتى منتصف القرن العشرين ما أعطاها القدرة على إعادة صياغة الأحداث وفق الرواية الاستعمارية، وشيطنة حركات التحرر، وتلميع الاستعمار باعتباره «تمديناً» وخلال الحرب الباردة تحول الإعلام إلى سلاح سياسي وسُخرت إذاعات مثل «صوت أمريكا» و«راديو أوروبا الحرة» لمحاربة النفوذ السوفييتي ولكن مع ظهور الإنترنت في نهاية القرن العشرين انفتح العالم وبدأت الحكومات تفقد تدريجياً سيطرتها المباشرة ولكن هل تركت الإعلام حراً؟
ظهرت منصات كبرى مثل «غوغل» و«ميتا» «تويتر أو «أكس» و«يوتيوب» وغيرها لتكون حلقة تواصل، لكنها سرعان من تحولت إلى قوى إعلامية عابرة للحدود تتحكم اليوم بالأخبار والمحتوى ومحركات البحث والإعلانات بالإضافة إلى جمع البيانات وتحليلها، كل ما سبق أعطى هذه الشركات نفوذاً يفوق بكثير ما امتلكته وكالات الأنباء التقليدية، خصوصاً في توجيه الرأي العام والتأثير في الانتخابات والحروب، من الواضح أن لهذه الشركات تحالفات خفية مع الحكومات الداعمة لها. فهي تتعاون مع الأجهزة الاستخباراتية، كما أشار «إدوارد سنودن» في تسريباته الشهيرة فإن هذه الشركات مُتداخلة مع أجهزة مثل NSA وهي مُصممة لتلبية معايير الأمن القومي الأمريكي.
وفي تقرير لليونيسكو صدر عام 2022، بعنوان: «اليونيسكو تحذر.. أن الشركات الرقمية تهدد حرية الإعلام»، التقرير جاء في 400 صفحة مدعوماً ببيانات من عشرات الدول. يبرز كيف أدت هذه الهيمنة إلى تغير منظومة حرية الإعلام والتحكم في وصول الأخبار.
المخاطر اليوم تكمن في أن تلك الخوارزميات تنشر ما تريد وتحجب ما تريد أو تحدد انتشاره، تتحكم بوعي العامة وتدفعهم نحو الإدمان الرقمي.. إدمان يُبقي المستخدمين في «دوامة التصفح» خاضعين باستمرار لتيار المحتوى المُوجه نحو مصالحهم وفي هذا كتب الباحث «نيكولاس نيغروبونيتي» أن الإعلام الرقمي سيكون هو المُسيطر والثقافة الاجتماعية والسياسية الحتمية والوحيدة. وهذا يعني إعادة إنتاج الاستعمار.
ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور للإعلام، بل امتداد لنهج استعماري تاريخي انتقل من السيطرة عبر الحكومات إلى السيطرة عبر الشركات الرقمية المدعومة حكومياً، هذا الاستعمار أخطر لأنه غير واضح ولأنه يتخفى خلف حرية زائفة.
وعلية فمعركة التحرر الإعلامي اليوم هي معركة تحرير العامة من إدمان المنصات والوعي بفخِ مَطباتها، قبل أن تكون حرية كلمة.. أو رأي.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد