: آخر تحديث

وهْم الكمال

3
3
3

سمر المقرن

من أكثر الأوهام التي تستنزف طاقة الإنسان وتؤخر خطواته في الحياة هو وهم الكمال. هذا الوهم يجعل صاحبه يعيش في دائرة الانتظار الدائم: ينتظر أن تتهيأ الظروف، أن تكتمل الصورة، أن ينضج الوقت، أن يصبح كل شيء في مكانه الصحيح قبل أن يبدأ. لكن الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون أن هذه اللحظة المثالية لا تأتي أبداً.

الحياة بطبيعتها ناقصة، متحركة، مليئة بالثغرات والفراغات. وما يميز الإنسان الناجح عن غيره أنه يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها بمرونة. فالذين ينتظرون اكتمال الظروف لا يتحركون، بينما الذين يقبلون النقص يبدأون بالمتاح ويصنعون من خلاله فرصاً جديدة. النجاح لا يحتاج إلى لوحة مكتملة، بل إلى جرأة على الرسم ولو بألوان قليلة.

وهم الكمال أيضاً يولّد نوعاً من القسوة على الذات. فالشخص الذي يطلب من نفسه أن يكون مثالياً يضعها في مقارنة مستمرة مع صورة خيالية لا وجود لها. كل إنجاز يحققه يقلّ في عينه لأنه لم يصل إلى ذلك «الكمال» المتخيَّل. ومع مرور الوقت، يصبح أسيراً لخيبات متكررة وشعور بالعجز، بينما هو في الحقيقة يسير بخطوات طبيعية جداً.

التاريخ مليء بأمثلة لأشخاص بدأوا مشاريعهم وأفكارهم في ظروف بعيدة عن المثالية. كتب عظيمة خرجت من غرف ضيقة مظلمة، واختراعات كبرى وُلدت من أدوات بسيطة. لو أن أصحابها انتظروا الظروف المثالية، لما وصل إلينا شيء. السر ليس في اكتمال المشهد، بل في الإيمان بأن النقص جزء من المشهد، وأن البدايات غير المثالية تصنع نهايات عظيمة.

المشكلة أن ثقافة العصر الحالي تُغذّي وهم الكمال بشكل غير مباشر. وسائل التواصل تُظهر لنا صوراً مصفاة ومُنمّقة لأشخاص يبدون وكأن حياتهم كاملة: الجسد المثالي، الوظيفة المثالية، البيت المثالي. بينما الحقيقة أن ما نراه مجرد واجهة محسوبة بعناية، لا علاقة لها بما يعيشونه خلف الشاشة. ومن يقارن نفسه بتلك الصور الوهمية يظل يشعر أن ما عنده ناقص، وأنه غير جاهز بعد للخطوة القادمة.

كسر وهم الكمال يبدأ من قرار داخلي: أن أسمح لنفسي أن أبدأ الآن، ولو بالشيء البسيط. أن أتعامل مع النقص كجزء من الرحلة، لا كعائق يمنعها. أن أفهم أن كل نجاح حقيقي هو سلسلة من المحاولات غير الكاملة، لكنها تراكمت وصنعت الفرق.

في النهاية، الكمال ليس شرطاً للبداية. بل على العكس، البدايات الناقصة هي الطريق الوحيد للكمال الحقيقي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد