منيرة العصيمي
أحبّ أن أدورَ حول نفسي، وأضيعَ في خواطري
لذا أنت حالمٌ جدًا.
أتعرفين كيفَ يبدو هذا الخيال؟ إنه يغلي في نفسكِ مثل الماء في ركوة القهوة، لكنّ هذا من الخطأ، لأنكِ في نهاية المطاف تعتقدين أنّ هناك شيئًا حقيقيًا وملموسًا في أحلامكِ، وربما تهملينَ الحياة والواقعَ.
هكذا ينهي بطلُ الفيلم مارسيلو مستروياني حديثه مع ناتاليا التي أدّت دورها الممثلة ماريا شيل.
لن ينسى عشّاق الليالي البيضاء المشهد الأخير، حين يسير البطلُ بخطوات متخاذلة نحو منزله، بعدما أيقنَ أنه سيعيش وحيدًا مرة أخرى بين الكآبة، والظلمةِ. وفي الرواية، يقولُ دوستويفسكي على لسان الحالمِ:»بقيت طويلاً هناك، أتابعهما بنظراتي، وأخيرًا، غابا معًا عن بصري. تُرى، كيف يشعر من تعلّق قلبه بإنسانٍ، ثم أدرك أنه لم يعد له، وللأبدِ؟»
ثم نستدرك جزءًا من نهاية هذا الحلم: تلك الرسالة التي وصلته من ناستينكا، تخبرهُ فيها بموعد زفافها، فتتطاير كل أحلامِهِ. حتى مساعدته (ماتريونا) لم تعد تبالي بحزنه، وكل مايهمّها في الحياة هو العناية بشؤون النظافة، فتخبرهُ بأنها أزالت كل شِباك العنكبوت.
هذا الوحيدُ مع خادمته العجوز، في تلك البلدة الخالية، لم يرَ في لياليها سحرًا ولا فتنة إلا بعد أن عرف ناستينكا؛ تلكَ الفتاة الشابة التي كانت تشعر قبل أن تعرفه، ببطء الوقت، وسأم الحياة، وتشابه الأيام. لم تكن تمارسُ في حياتها سوى المكوث بجانب جدتها الضريرة، تقرأُ لها الكتبَ وتحكي الحكايات، كأنها شهرزاد أخرى، بعدما أُجبرت على ملازمتها بدبوسٍ يربط بين فستانيهما.
ناستنيكا القارئةُ لأدب سكوت وبوشكن، عرفتْ اسميهما من الكتب التي حملها إليها المستأجرُ جارها كهدية ماكرة، وحين دعاها إلى مشاهدة مسرحيةِ حلاق إشبيلية، كانت جدتها التي تحرسها برفقتهما.
لم تعد الصغيرة كما كانت، القلق تمكنَ منها، والحزن سلبَ سرورها. تتمتمُ بالقراءة دون أدنى انتباه، وما عادت تتمنى شيئًا سوى أن يمرّ هذا المستأجر من الرواقِ أو يطرقَ الباب لزيارتهما، وحين أخبرتها جدتُّها بانتهاء عقده وارتحاله، تألمت بشدةٍ وسارعت إلى الحديث إليه، ووعدته أن تنتظره حتى يعود.
وبعدَ مرور عام على سفره، وفي نفس الوقت والمكان، كانت ناستينكا على وعدها انتظرتهُ عند العاشرة ليلًا في الموضع ذاته، لكنه لم يأتِ، كانت تترقب عودتهُ بدموعها، ونحيبها، بينما يتجول ذلك البائس في شوارع بطرسبرغ، يرافقه ضيقهُ وأحاديث نفسه، يراقب الأبنيةَ وهي تثرثر وتضحك، وتركض، ويرى الراحلينَ عن المدينة يبقونَ له أشباحًا منَ الوحشة.
صار ينظر إليها بفضولٍ، وهي تهرب منه خجلةً وخائفة، لكن في صورةٍ عبثية يتحدثان، فتتشبثُ بيده لأربعة أيام متواصلة، ثم تبلغ الأحداثُ ذروتها عندما يبرع الراوي الحالم في سرد حكايتهِ، وهي تكاشفه عن قصةِ حبها، وتتمنى لو يكون صديقًا وفيًا، غير أنه كانَ قد وقع في حبها منذ الليلة الأولى، بينما هي كانت ضحيةَ فراق مؤلم وفراغ لم يُملأ بعد.
هذه الروايةُ التي ما زالت تسكن قلوبَ قارئيها، تدفعهم إلى تساؤلات كثيرة عن الحب والمشاعرِ والصداقة.
ففي حالِ الحالم، تسأل نفسك: لمَ يصعب على المرء تكوين الصداقات؟ ثم تقول: ما عواقب الوحدة؟ لتعود وتتساءل: ما الذي دفعهُ إلى اعترافه السريع بالحبِّ؟
وبالرغمِ من أسفنا لحاله، إلا أنه كان ممتنًا لتلكَ الأيام الأربعة التي نقلته من رؤية المدينة الكئيبة والحزينة، إلى أن أصبحت مدينة مشعة ومشرقة بعدما أحبّ تلك الفتاة.
فهل تُلام هي على تركهِ، أم هو الذي كان يتمنى لو يعيش على أملٍ جديد؟
وكما وصفَ دوستويفسكي حاله حين قال:
«وعبثًا يبحث الحالم في رماد أحلامه القديمة، إنه يبحث في هذا الرمادِ، على الأقل، عن شرارةٍ لينفخَ عليها، عن نارٍ جديدةٍ ليدفئَ قلبه البارد، ما يؤثر في الروح، ما يجعل الدم يغلي، ما يستدرّ الدموع من العيونِ، ويخدع بصورةٍ رائعة!».


