: آخر تحديث

مناقشة الأفكار.. الجدل أفيون الشعوب

2
4
3

علي بن محمد الرباعي

ليس من السهل الوصول إلى حقيقةٍ ما، وليس مستحيلاً إلا على عقل كسول، والأفكارُ شُعلةٌ، يمكنها أن تؤجج حريقاً، ويمكن أن تخبو. والحكمةُ في السلامة من الاحتراق، والعف عن الجناية عليها بالإطفاء، ومثلما تتطوّر المجتمعات، وتتمدن، وكما يجري تحديث الدُّول، كذلك تتطوّر الشعوب، وعياً وأفكاراً ومواطنة.

وتنتصر الأفكار ولو بعد حين من الدهر، بانتصار الإرادة على الهوى، وتغليب الموضوعي على الذاتي، وبقوة التشريع المدني الذي يُلزمْ كل مواطن بحدوده؛ ومن يريد رصد تطوّر وتمدّن مجتمع، فعليه أن يستمع لطرحه ومناقشاته، ويُدقق في سلوكه، وأخلاقه، فمفهوم التنمية أوسع وأشمل من الاقتصاديات المادية، فالغاية التنموية؛ هي الإنسان الذي يُفترض أن تنمو بالتنمية طريقة تفكيره، وأساليب تعامله، وينضبط سلوكيّاً بالقوانين التي تُعزز مدنيّته ورُقيّه.

ولا يمكن أن يتحرر الإنسان من جهل، ويتعافى من أمراض أخلاقية، دون أن تتلبسه أفكار وأدبيات تلامس وجدانه، وإن لم يجرؤ على البوح بها، ولعل الفئات، التي اعتادت مناقشة الأفكار، بحدّية؛ تحُيي رسوماً درست، بمناقشة موضوعات قديمة، في زمن حديث، بذات اللغة والوعي والهوى التالدة، ومعنى ذلك أن التنمية البشرية لم تحقق مستهدفاتها بصورة كُليّة، فالحكم الذي ينطلق من هوى؛ حكم اعتباطي، لأن الهوى إرادة متحررة من التفكير، ومن الطبيعي أن لا يثبت صاحب هوى على قرار ومشاعر اعتباطية؛ فسرعان ما يعدل عنها إلى غيرها، أو نقيضها، وصاحب الإرادة الحُرّة لا يتعامل مع القوانين والأنظمة بهواه، فالأخلاق لا تعني السيطرة على الموضوعات، بل التحكّم في ذاتٍ مُغرمةٍ بالهوى.

ولقبيلة الثقافة في عالمنا، أو عوالمنا، نزعات وتوجهات في التعاطي مع فكرة أو طرح، بحكم الميول، أو التحاسد، أو الصّلات الروحية والنفعية، والرغبات، والأنا، وحظوظ الدنيا، فينساق البعض، بهوىً أو مخزون تراكمي شاق، إلى نسف كل ما لا يتسق مع قناعاته؛ البائسة أحياناً، والناقمة في كثير من الأحيان، وهناك من تشغله الأفكار انشغالاً سلبياً لا يعبّر عنه، فيلزم الصمت، وهناك من يتفاعل بعدوانية، وهناك المُتلطّف وإن لم يُنصِف، وهناك المُنصِف.

والقادر على إنتاج الأفكار غالباً، أكثر المعرفيين قدرةً على مناقشة أفكار الآخرين، دون استعلاء عليها، ولا دونية، فالمستعلي على الأفكار يلغيها بكلمة أو جرة قلم كما يقال، والذي هو دون وأقل مستواها ولا يمكنه استيعاب محتواها وما تؤمي إليه، يجنح إلى تشويهها ويحمّلها من التهم والإدانات ما لا تحتمل، في ظل محاولات الموضوعي إنصاف ما هو عقلاني دون تجنٍّ على النصّ أو الشخص.

ويتمثّل لي المُفكّر والكاتب، في صورة صائد صقور، أو طيور نادرة، فهو حريص أشد الحرص على حياة وسلامة صيده؛ إلا أن أدواته يمكن أن تؤذي الطير، فيفقد قيمته، أو تنقص، والفكرة أشبه بالطير المُقتنص، بأدنى تشويه، أو مغالطة؛ تضعف وتمرض، وإن كانت الأفكار لا تموت، والإنسان خليط من مشاعر وخطابات، وتديّن، وما فيه من الأديان وما جرى لها وعليها؛ ينعكس عليه بصورة ما.

هناك عبر التاريخ البشري، طوائف وأطروحات جدليّة، والقرآن الكريم نبّه على سلبية الجدل (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)، فالمُجادل العقيم غالباً لا يريد الوصول إلى حقيقة، ناهيك عن اقتناعه بما يغلب على الظن بأنه حق، وعلى الجدل، يتأسس الرفض؛ إما رفض الفكرة الصحيحة، أو السليمة، أو الناضجة، أو رفض المفكّر، أو رفض تسليم المجتمع بالأفكار؛ إما لأسباب شخصية، أو أيديولوجية أو حزبيّة، أو عدم الارتياح لصاحب الفكرة، أو كراهيته، أو استكثار الأفكار على شخصه؛ كونها لا تنطبق عليه معايير الناقم الحاسد المُشوّه الذي يرى نفسه فوق الأفكار، وإن كان دون مستوى المُفكّر.

هناك مناقشة للأفكار وحوار معها، تنتج أفكاراً لم تخطر على بال المتحاورين، وهي صفوة وخلاصة ربما تكون أقرب لديالكتيك هيجل، وتنفع في الخروج من أسر أزمة معرفية إلى أفق أرحب، فتفعيل الأفكار يخلق مرونة مواكبة عصر، ولا يرضى العقلاء أن تكون الأفكار مثل المقترحات؛ إن صدرت من ذي شأن لقيت التهليل والتمجيد، ولو كانت عادية أو تقليدية، وإن صدر مثلها أو أحسن منها، عن كادح، قالوا؛ قديمة أو مسروقة؟!

ووصف الجدل بالأفيون المخدّر، مُستعار، فالبعض يتنفس احتقانه بالجدل، ويشعر بارتياح؛ وتخمد ناره، وينطفئ ضوءه؛ وينام عميقاً، ويصحو متأخراً للبحث عن جدل جديد أو متجدد في مواقع التواصل، ولأنه غالباً غير منتج، فهو معني بتحطيم مراكب المُنتجين؛ أو تكسير مجاديفهم، والجدل المشهود غايته الوصول إلى لا شيء، عدا الجحود.

تلويحة؛ (رب حامل فكر إلى من هو أعمق منه) وهنا تحضر حكاية فيلسوف، كان يحمل شمعة؛ فسأل أحد مريديه؛ من أين أتى الضوء؟ فنفخها المريد وانطفأ الضوء، فسأل الفيلسوف؛ إلى أين ذهب؟.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد