: آخر تحديث

جيل الستينيات الشعري رؤية جديدة

3
4
3

عبدالحسين شعبان

في عام 1969 كتب الشاعر العراقي فاضل العزّاوي «البيان الشعري» بالتعاون مع الشعراء العراقيين: سامي مهدي، خالد علي مصطفى وفوزي كريم، وتبعه صدور بيان بعنوان «الرؤيا الجديدة»، وقّعه ستة فنانين عراقيين هُم: ضياء العزّاوي، رافع الناصري، إسماعيل فتّاح الترك، هاشم سمرجي، محمد مهر الدين وصالح الجميعي؛ ثمَّ صَدر بيان «الحداثة الشعرية» في مدينة السليمانية، أطلقه الشاعر الكردي شيركو بيكس، وشكَّلت هذه البيانات حراكاً ثقافياً جديدا رغبة في إنتاج إبداع جديد. يومها كان الوسط الثقافي العراقي يُقدِّم خطوة ويؤخّر أخرى، لكن المؤكد أن الكثير من المثقفين، وبسبب الانكسارات والخَيْبات التي حصلت بعد انقلاب فبراير 1963 وما تلاه من انقلاب على الانقلاب في 18 نوفمبر من العام ذاته، أخذ لا يستسيغ النظرة المتزمتة التي طَبعت الحياة الفكرية والسياسية والحزبية ذات الإيقاع المنفرد والبعد الواحد. ولعل من خلفيات ذلك الحراك أن رصيد الحرية بدأ يرتفع، سواء على المستوى العام أم الحريات الشخصية، وارتبطَ ذلك بموجة الاحتجاج العالية عالمياً التي انطلقت من باريس، مدينة النور والجمال ومن قلب الرأسمالية ومن براغ الذهبية أيقونة الاشتراكية (العام 1968). كان جل اهتمامي، قبل ذلك، منصبّاً على «جيل الرواد»، مُمَثّلاً ببدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي، لكنْ أوّل ما لفتَ انتباهي إلى النبرة العالية للحديث عن «جيل الستينيات» هو الشاعر والروائي فاضل العزّاوي، حين ألقى محاضرة في اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق (بغداد - 1974)، أثارت ردودَ فعل شديدة بسبب تنديده بالوصاية الإيديولوجية والهيمنة الحزبية. كنت حينها أُتابع دراستي العليا في الخارج، وأخذت أستعيد وأستذكر حواراتنا في الجامعات والمقاهي والحانات حول قصيدة النثر والكتابة الجديدة ترافقاً مع الموجة اليسارية الجديدة والتوجه الغيفاري، والبحث عن سبل الخلاص بمعناه الفردي «الوجودي». جيل الستينيات العربي لم يكتمل الحديث عن جيل الستينيات العراقي، إلا بتفاعله مع محيطه العربي، وهو ما عبَّرت عنه مجلة الطليعة المصرية التي كان يرأس التحرير فيها المفكر لطفي الخولي، حيث نشرت مقالات عن جيل الستينيات والموجة الجديدة، وخصصت عدداً للحركة الأدبية والثقافية الستينية، وفعلت مجلة الطريق اللبنانية الأمر عينه، وذلك قبل انقضاء الستينيات (1969). وكتبَ الناقد محمد دكروب دراسة عن «الأدب الستيني» قدَّمها إلى مؤتمر اتّحاد الكتاب العرب (دمشق - 1971). أمّا فلسطينيّاً فقد عرَّفنا الروائيُّ غسّان كنفاني على جيل الستينيات، وكان له قصب السبق حين كتب عن أدباء الأرض المحتلة، وذلك قَبل أن نلتقي مع الشعراء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد والروائي أميل حبيبي والكاتب المسرحي توفيق فيّاض، وهؤلاء معظمهم ينتمون إلى «جيل الستينيات»، حتى وإن كان بعضهم أقدم زمنيّاً. وأصدر الكاتب المصري غالي شكري كتاباً بعنوان: «ذكريات الجيل الضائع» (1972)، وقصد به جيل الستينيات. ولا بدّ هنا من التوقف عند إسهام «مجلة شعر» التي أصدرها الثنائي يوسف الخال وأدونيس (1957)، وبعدها مجلة «مواقف» التي أصدرها أدونيس (1969)، في نشر النتاج الستيني والترويج له على نحو كبير ومتميز. الستينيات: عودة واستحضار أعاد الشاعر عبد القادر الجنابي «الستينيات» إلينا، أو أنه أخذنا إليها، وذلك حين نشر في العام 1992 عدداً خاصاً من مجلة «فراديس»، قدَّم فيه العديد من روّاد ذلك الجيل، أو المشاركين في حركيّته، شهاداتهم الخاصة. ثمَّ عاد وأصدر كتاباً في العام 1993 بعنوان: «انفرادات الشعر العراقي الجديد»؛ ولعلّ ذلك ما دفع الشاعر سامي مهدي للإسراع في إصدار كتاب قال إنه بدأ العمل فيه منذ عام 1978، وبسبب ظروف خاصة وعامة تأجَّل إكماله، وصَدر الكتاب بعنوان: «الموجة الصاخبة.. شِعر الستينيات في العراق»، في عام 1994. وقدم الشاعر سامي مهدي في كتابه جهداً كبيراً في تدقيق الشخصيات والنصوص والموضوعات المنشورة خلال الستينيات وتوثيقها بالرجوع إلى مصادرها الأصلية، ناهيك بجانب مهم من حياة المقاهي البغدادية وروادها من المثقفين، والمناقشات التي كانت تدور بينهم، لكنّه احتوى أيضاً على نتوءات وإقحامات سياسية، كانت تبدو خارج سياقها في الكثير من الأحيان، ناهيك ببعض الحساسيات الشخصية وادعاء الأفضليات، ولاسيما محاولة التقليل أو الانتقاص من دور فاضل العزّاوي، أو السعي للنيل من بعض المثقفين الذين غادروا العراق بسبب القمع في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ صدور الكتاب في عام 1994، حيث كان سامي مهدي حينها أحد أبرز الوجوه الثقافية والإعلامية في عهد النظام الأسبق، سيكون الأمر مفهوماً، خصوصاً في ما يتعلق بالمنافسة والريادة وإنساب المزايا أو حجْبها وغيرها من الأمور، التي كانت في الكثير من التقييمات بعيدة عن الموضوعية. ثم جاء كتاب فاضل العزّاوي «الروح الحية.. جيل الستينيات في العراق» (1997)، وهو كتاب مؤسس للحركة الستينية، التي لا يمكن الحديث عنها من دون الإتيان على ذكره والتوقف عند كتابه النقدي للواقع والتجربة الخاصة والعامة. وقد احتوى الكتاب باقة أفكار واجتهادات جريئة كان سبّاقاً إلى طرحها منذ أواسط الستينيات. ولا بد من الإقرار بأن العزّاوي كشاعر وروائي وكاتب، ظلَّ الأكثر إخلاصاً والأعمق رؤية لجيل الستينيات وإرهاصاته، بغض النظر عن بعض ردوده الحادة على الشاعر سامي مهدي والحساسيات الشديدة باختلاف مواقعهما، فأحدهما في السلطة والآخر في المعارضة. قدَّم كتاب العزاوي ربطاً وثيقاً بين جيل الستينيات العراقي والعالمي في التعبير عن حركة الحداثة في كتابة جديدة أطلق عليها توصيف «الموجة الجديدة» و«الكتابة الطليعية» و«الكتابة المضادة» و«الكتابة الحرة» وغيرها، ولعل قصده في ذلك هو محاولة بلورة فضاء جديد للحداثة. وفي وقت متأخر صدر كتاب الشاعر فوزي كريم الموسوم «تهافُت الستّينيّين.. أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي» (2006)، وحاول فيه أن يُقدِّم رؤية مختلفة عن رؤية مهدي والعزّاوي خارج دائرة الصراع السياسوي - الثقافي، ولاسيما بعد احتدامه في أواخر السبعينيات. ويمكنني القول إن للحركة الستّينيّة روافد متعدّدة لا يستطيع أحد أن يزعم أو حتى يدّعي احتكارها أو النطق باسمها، طالما كانت هناك رؤى عديدة ومتعددة ومتباينة في نظرتها إلى الحداثة والجمال والحق والتنوير، وهو ما تم التعبير عنه في الكتب التأسيسية الثلاثة، وأعني بها كتب: الجنابي ومهدي والعزاوي. بعيداً عن التقديس والتدنيس خارج دائرة المبالغة بالتهويل أو التعظيم أو بالتقليل أو التهوين، فإن «جيل الستينيات» يستحق عناء البحث لأسباب عدة منها: أولاً - ما عاشه من إحباطات وما شهده من تصدعات وما اجترحه من معاناة، حيث تحطّمت الكثير من قناعاته وانكسرت غالبية أحلامه؛ وثانياً - ما تركه من تأثيرات على الأجيال التي لحقته، فالستينيات امتازت بنكهة حادة ورائحة قوية وتجريبية عالية؛ وثالثاً - النرجسية التي امتازت بها التجارب الستّينيّة، وما سَعت له من ابتكار أساليب، مطروقة وغير مطروقة، لتجاوز ما سبقها. ثلاث ثورات مهّدت لجيل الستّينيّات ثلاث ثورات انغمس فيها حيناً، وتماهى معها أحياناً أخرى، وهي: أوّلها - الثورة الفكرية، ولاسيما اليسارية ولبّها الماركسية المعجونة بالغيفارية، حيث بدا وكأن النقاش في حقل الفن والأدب قد حُسم لمصلحة «نظرية الفن للناس» أو «للمجتمع» مقابل «نظرية الفن للفن»، وأَصبحت فكرة الالتزام سائدة في الأدب بوصفها ملازمة للحرية، لدرجة أن حركات قومية ووطنية غير ماركسية تبنتها. وثانيها - الثورة الأخلاقية، أو بمعنى آخر، الثورة على الأخلاق السائدة والتمرُّد عليها، وكان الجنس محورها، وخصوصاً وقد شهد العالم الغربي انفتاحاً غير مسبوق في تلك الفترة ترافق مع حركة الهيبيّين (الهبّيز)، التي كانت تنظر إلى الجنس باعتباره ظاهرة بيولوجية فطرية لا يجب إنكارها أو كبتها، حيث دعت إلى «الحب الحر» و«التحرّر الجنسي» و«حقوق الجسد» وقد استخدم فيلهلم رايش الماركسي الأصل والمتأثّر بالفرويدية تعبيرَ «الثورة الجنسية» وانتقد «الأخلاق الجنسية» المنتشرة في زمنه. وعلى الرغم من الكوابح التي حالت دون الترويج لمثل هذه المفاهيم صراحة في مجتمعاتنا لاعتبارات اجتماعية ودينية، وخشية من الاتهام بالتحلُّل والفساد ونشر الرذيلة، إلا أن ثمة إرهاصات، وإن كانت محدودة، وجدت طريقها إلى بعض الكتابات تحت عناوين «وجودية» أو رافضة لما هو سائد، خصوصاً بانتشار كُتب سيمون دي بوفوار «الجنس الآخر» وسارتر «الوجود والعدم» وكولن ولسن «المنتمي واللّامنتمي» وغيرها، ومثل تلك العناوين كانت مادة على موائد مناقشات المقاهي والحلقات الثقافية والأروقة الجامعية والحانات البغدادية. ثالثها – الثورة الوجودية، حيث عرف جيل الستينيات انتشار الأفكار الوجودية، وكان عبد الرحمن بدوي من روّادها في العالم العربي، وترجم الكثير منها، وقد لاقت أفكارُها صدىً في العراق لشعراء وأدباء وفنّانين وكتّاب، حتى قبل تلك الفترة، مثل بلند الحيدري وشقيقه صفاء الحيدري وحسين مردان وآخرين، ويُمكن إضافة الشاعر عبد الأمير الحصيري إلى هذا الوسط، وإنْ كان في نظرة هؤلاء جميعهم شيء من السلوك المتمرّد أكثر من التمثُّل بالوجودية ذاتها كفلسفة، كما كتبَ عنها سارتر، وكير كارد، وهايدغر. 1968 العام الاستثنائي يَختزل البعض الستينيات بالحديث عن انتفاضة باريس. ومع أنه عام استثنائي بامتياز، إلا أنه لا يُمكن فصْله عمّا سبقه وعمّا لحقه من أعوام، فقد كانت الستينيات مرجلاً يغلي على نحو متصاعد في جميع الميادين والحقول، وهو ما يراه الكاتب الصحافي البرازيلي زوينير فنتورا الذي ألّف كتاباً مُثيراً بعنوان «عام 1968 لم ينتهِ أبداً»، وخصصت مجلة «كتابات معاصرة» في عددها 110، فبراير - / مارس، 2019، ملفّاً بعنوان: «خمسون عاماً على أيّار/ مايو 1968». أما دانيال كوهن بندت، وهو زعيم طلابي كان له دَورٌ متميّز في تظاهرات شوارع باريس، فيرى أن العام 1968 انتهى لدرجة أنه سَئم الحديث عنه ولا يود تكراره. من عاش مرحلة الستينيات لا بد له من استذكار تلك الأعوام التي شهدت عدوان الخامس من يونيو 1967 على الأمة العربية، وبداية هزيمة الإمبريالية الأميركية في فيتنام، وانتصار حركة الحقوق المدنية في أميركا بقيادة القس مارتن لوثر كينغ، وكذلك الصعود الملحوظ للحركة المطالبة باحترام حقوق الإنسان، ولا سيّما بعد تأسيس منظمة العفو الدولية في العام 1961، واتساع نطاق الثقافة الحقوقية بشكل عام. الستينيات مضت ولم تَمض. هل غادرتْنا الستينيات؟ وإذا كان الأمر قد حصل فعليّاً، فلماذا إذاً نَستحضرها بمناسبةٍ أو من دون مناسبة. وكلّما تأمّلتُ ذكرياتِ الماضي، قفزَتِ الستّينيات إلى ذهني، لأنّ عاصفتَها لم تَهدأ في داخلي، وروحي لا تزال تتغذّى عليها لتعيد الاشتعال بين حينٍ وآخر. كانت هذه الحزمةُ من الأفكار والأسئلة توشْوشني حين يجري الحديث عن الستينيات. ومن دون تصميم أو قرار أَجدها تتسلّل إلى نصّي وتتغلْغل في سرديّتي، وأشعر أحياناً أنّ رائحتها تُعطِّر أنفاسي، فكأنّي أتذوّق خمورَها وأستنشق دخانَ سجائرها وأسمع صراخَ حاناتها وجدال مثقفيها في مقاهي «البلدية» و«حسن عجمي» و«البرلمان» و«الشابندر» و«مقهى الشط» (مقهى الحاج زناد) و«ليالي السمر» و«عارف آغا» و«البرازيليّة» ومقهى «المعقّدين».. وفي أروقة الجامعة ونواديها ومناقشاتها الحامية وحواراتها الساخنة وحركاتها المتفاعلة. مَن عاش مرحلة الستّينيّات، لا يُمكنه أن يتوقّف عند جانبٍ واحد من جوانبها، فقد كانت مترابطة ومتلازمة إلى حدود كبيرة، ابتداءً من السياسة إلى الثقافة، ومن التربية والتعليم إلى الجنس والمرأة والدين، ومن الرأسمالية المترهلة والمنضبطة في آنٍ إلى الانفتاح ورفْض السلطة، ومن البيروقراطية الاشتراكية إلى حلم الاشتراكية ذات الوجه الإنساني، ومن الديكتاتورية والهيمنة إلى الرفض والدعوة للديمقراطية، «الغائب الموعود»، و«المَنسيّ المفقود». *كاتب من العراق * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد