تتقدّم المملكة بثبات على الخريطة الاستثمارية العالمية، بعد أن تحولت من دولة مصدرة للطاقة إلى دولة مصدرة للثقة، وبفضل استقرارها السياسي وتماسك سياساتها الاقتصادية، أصبحت الرياض مركزًا تتقاطع عنده رؤوس الأموال، وتتشكل منه الاتجاهات الجديدة للأسواق العالمية، هذا التحول لم يكن نتاج ظرفٍ اقتصادي مؤقت، بل ثمرة رؤية طويلة المدى أعادت بناء العلاقة بين الدولة والاقتصاد على أسس الحوكمة والشفافية والانفتاح على العالم.
في المشهد الدولي اليوم، لم يعد الاستثمار محصورًا في حسابات العائد المالي، بل أصبح لغة نفوذ، وأداة تأثير تستخدم في صياغة التحالفات وتوازنات القوى، ومن خلال هذا الإدراك العميق أعادت المملكة تعريف دورها في العالم، فهي لا تخاطب الآخرين بالشعارات، بل بلغة الأرقام والمشروعات والتحالفات التي تصنع التوازن وتفتح مسارات جديدة للنمو والاستقرار.
مبادرة "مستقبل الاستثمار" تمثل التجسيد العملي لهذه اللغة الجديدة فمنذ انطلاقتها الأولى، تجاوزت حدود المؤتمرات الاقتصادية التقليدية لتصبح منصة دولية لصياغة ملامح الاقتصاد العالمي المقبل، وفي نسختها التاسعة هذا العام عززت المبادرة حضور المملكة كقوة إقليمية فاعلة تجمع بين الاقتصاد والسياسة في مساحة واحدة، حيث تلتقي الرؤى والمصالح على أرض الرياض.
ما ميز النسخة الأخيرة هو اتساع قاعدة المشاركة الدولية، إذ جمعت رؤساء دول وحكومات وقادة مؤسسات مالية كبرى، ما منحها بعدًا دبلوماسيًا إضافيًا، وكان حضور الرئيس السوري أحمد الشرع من أبرز محطاتها، في دلالةٍ سياسية تعكس قدرة المملكة على إدارة الملفات الشائكة عبر الاقتصاد، وفتح مسارات جديدة للحوار العربي - العربي من منظور التنمية.
هذا التنوع في الحضور عزز مكانة الرياض كعاصمةٍ توازن بين المال والسياسة، والتنمية والأمن، فالمملكة لا ترى في الاستثمار وسيلةً للربح فقط، بل أداة لإرساء السلام والاستقرار، وهي بذلك تؤسس لنموذج جديد من الدبلوماسية يقوم على بناء الثقة لا فرض النفوذ، وعلى التعاون لا التنافس.
تندرج هذه التحولات ضمن الإطار الأشمل لرؤية "2030" التي جعلت من الاقتصاد الوطني محركًا للسياسة الخارجية، ومن الانفتاح على العالم عنصرًا أساسيًا في بناء القوة الناعمة للمملكة، فبين الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والتمويل المستدام يتشكل دور سعودي جديد في إدارة الملفات الكبرى بعقلٍ استثماريٍّ واقعيٍّ وطموحٍ في آنٍ واحد.
بهذا النهج تواصل المملكة ترسيخ ما يمكن تسميته بدبلوماسية الاستثمار، فلسفة ترى في الاقتصاد لغة للحوار بين الأمم، وفي الشراكات طريقًا لصناعة مستقبلٍ أكثر أمنًا وازدهارًا.


