منذ أن نطق العربيّ أوّل بيت شعر له، لم يكن حينها يكتب الشعر ليتباهى ببلاغته وفصاحة لسانه ومهارته اللغوية، بل ليوثّق ما لا تُوثّقه السيوف، ولا تدركه الروايات، فالشعر في جذره الأوّل ليس فناً للزينة، بل آلية بقاء، ووسيلة نجاةٍ من الفناء، كأنّ القصيدة هي الكفّ التي كتب بها العربيّ تاريخه قبل أن تكتبها الدول في دفاترها!
ففي الجاهلية كان الشاعر هو المؤرّخ والمُحلِّف والناطق الرسميّ باسم القبيلة، ووزارة إعلامها ووثيقتها الرسمية، فإذا قال: «ونشرب إن وردنا الماء صفواً.. ويشرب غيرنا كدراً وطينا»، صار ذلك دستوراً لا يجرؤ أحد على نقضه، لأن الشعر في ذلك العصر القولي وثيقة أخلاقية قبل أن يكون لغة جمالية، لقد دوّن امرؤ القيس يومه، كما دوّن عنترة دمَه، وزهير حكمته، فصار الشعر تاريخاً لا يُقرأ في كتب الحروب بل في صدور القصائد، وحين عبر الإسلامُ إلى القلوب، ظلّ الشعر يسير معه شاهداً ومشاركاً؛ فقد غنّى حسان بن ثابت بطولات النبيّ، حينما لم يكتبها بلغة المؤرخ، بل بلغة الروح التي ترى النصر قبل وقوعه، فصار الشعر أداةً للوعي الجمعيّ، يحفظ المواقف لا التواريخ، ويعيد تعريف البطولة بوصفها ضوءاً لا سيفاً.. ثمّ جاءت العصور اللاحقة، فحمل المتنبي عبء الملوك على كتفيه، وجعل من ذاته سيرةَ أمةٍ تبحث عن مجدها، ففي كل بيتٍ من شعره وثيقة عن زمنٍ كان ينهض وينكسر في اللحظة نفسها.. وحين تقرأ المعرّي، لا تقرأ مجرّد تأملاتٍ في الفناء، بل تقرأ تاريخاً للوعي الإنسانيّ وهو يكتشف هشاشته أمام سلطة الزمان.
وإذا انتقلنا إلى خارطة أخرى وحياة أخرى حيث الأندلس، سنلتقي بابن زيدون يغني لوَلادة، فيوثّق من خلالها حالة سقوط حضارةٍ بأكملها في حبّ امرأة، كأنّ الشعر صار ذاكرة المدن، لا ذاكرة الرجال ومنذ تلك اللحظة تغيّر وجه التوثيق، فبدلاً من أن يسجّل الشعرُ الغزوات والمآثر، بدأ يسجّل الفقد، والحنين، والخراب، ليصير مرآةً لما لا يكتبه المؤرخون، حيث المشاعر التي تستعمر السطور.. وفي العصر الحديث، حين أطفأت الحروبُ شموعَ التاريخ العريق، ظلّ الشعر العربيّ الوحيد الذي بإمكانه إعادة إشعال الذاكرة، من محمود درويش وهو يكتب فلسطين ككائنٍ من نبضه، إلى محمد الثبيتي وهو يكتب الصحراء كقارةٍ من المعنى، وفي كلٍّ ظلّ الشعرُ الوثيقة التي لا يزوّرها الزمن ولا يسرقها المنتصرون.
هكذا ظلّ الشعر العربيّ يدوّن ما بين السطور: خيبات المدن، وصرخات العابرين، وأحلام الذين لم يكتبوا أسماءهم على الجدران، إنه لا يكتفي بتسجيل الحدث، بل يقدّمه وقد تعرّى من الوقائع ليتجلّى في صورته الإنسانية الأعمق، فحين نقرأ قصيدة عن طللٍ أو عن موتٍ أو عن حبٍّ مفقود، فإننا في الحقيقة نقرأ تاريخاً آخر حيث تاريخ الوجدان وتحوّلاته في وجه الزمان.
والشعر، في جوهره، أرشيف أكثر صدقاً للروح العربية؛ فإذا كان التاريخ روايةً وتوثيقاً اعتدنا أن يكتبه لنا المنتصرون كما يقال، فإنه على مستوى الشعر لا يكتبه إلا الحالمون، فهو في كل عصوره المتعاقبه لا يخلّد السلطان بل الإنسان دائماً، ولذا، كلما تقادم التاريخ وبهتت الوثائق، ظلّت القصيدة حاضرةً، تشهد أن العربيّ عاش، وتألم، وحلم، وغنّى.. وأن صوته لم يكن صدى للماضي، بل محاولةً مستمرة لتأجيل موته بالقول، فمن المعلّقات إلى قصائد اليوم، يظل الشعر العربيّ السجلّ الأجمل لتاريخٍ لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع، وبذلك القدر من الحنين الذي يجعل من كل بيتٍ وطنًا صغيرًا، ومن كل شاعرٍ مؤرّخًا لنبض أمةٍ لا تنتهي.


