لم يعد اليوم "التأمين الصحي" ترفا تنظيميا أو خيارا محدود الأثر، بل أصبح أحد أهم ركائز جودة الحياة في أي نظام صحي يسعى إلى العدالة والديمومة.
وفي ظل التحول الصحي الكبير الذي تشهده البلاد، بات التأمين الصحي عنوانا لإصلاح شامل يمس كل مواطن ومقيم، ويعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع ومقدم الخدمة والحكومة.
منذ تأسيس "مجلس الضمان الصحي" كان الهدف تنظيم العلاقة بين أطراف المنظومة وضمان حقوق المستفيدين في الحصول على الرعاية دون مشقة أو تعقيد. ومع توسع المظلة ووصول عدد المستفيدين إلى أكثر من 14 مليونا بعد أن كان يقدر بـ300 ألف منذ عشرين عاما، يبرز السؤال: هل استطاعت المنظومة أن توازن بين العدالة الاجتماعية والديمومة الاقتصادية؟ وهل هذا التوسع يعكس تحسن جودة الخدمة فعلا أم أنه مجرد نمو رقمي يحتاج إلى مراجعة أعمق وأدق؟
العدالة في "التأمين الصحي" لا تقاس بعدد المؤمن عليهم فقط، بل بعدالة التجربة ذاتها. فالمريض ليس مطالبة مالية أو رقما في نظام محاسبي، بل إنسان يستحق خدمة كريمة وجودة متكافئة في كل مرفق صحي. لذلك تعمل الدولة -حفظها الله- بخطوات واثقة على بناء نظام موحد يضمن تكافؤ الفرص الصحية بين جميع المستفيدين، ويربط القطاعات المختلفة إلكترونيا لضمان العدالة في الوصول وجودة الخدمة، مع رفع كفاءة مقدمي الرعاية وتحسين تجربة المستفيد في كل مراحل تلقيه للخدمة الصحية.
أما الديمومة فهي التحدي الأصعب أمام الأنظمة الصحية عالميا، مع تزايد التكاليف الناتجة عن ارتفاع متوسط الأعمار وتطور التقنيات الحديثة وازدياد الأمراض المزمنة. فكل تقنية جديدة أدق لكنها أغلى، وكل علاج متطور يحمل كلفة إضافية، ما يجعل إدارة الموارد بكفاءة ضرورة ملحة وليست خيارا. وهنا يأتي دور "الذكاء الاصطناعي" وتحليل البيانات الضخمة في توقع السلوك المرضي، وتقليل الهدر، وتوجيه الموارد نحو الفئات الأكثر حاجة، بما يضمن استمرار جودة الخدمات وتوسّعها في الوقت نفسه.
التحول الصحي في المملكة يسير اليوم نحو تعزيز الطب الوقائي كمنهج وطني واقتصادي يحمي النظام الصحي ويقلل الإنفاق على المدى الطويل، فكل ريال يصرف على الوقاية يوفر عشرة على العلاج، وكل خطوة نحو الوعي الصحي تمثل استثمارا في مستقبل أكثر صحة وجودة للحياة.
وفي النهاية، يظل نجاح منظومة التأمين الصحي مرهونا بقدرتها على الجمع بين العدالة والديمومة، وبين كفاءة الإدارة وإنسانية التجربة، ليصبح التأمين الصحي في بلادنا رافعة تنموية وصحية واقتصادية، تعزز جودة الحياة وتحقق معادلة تليق بوطن جعل من صحة الإنسان أولويته ومن جودة حياته مشروعه المستقبلي.


