حسين الراوي
في زحمةِ الترديد والاقتباس، تتناقل الألسن مقولةً صارت كأنها حقيقة لا يطولها شكّ... أن القبائل العربية تحدّرت من اليمن، وأن اليمن أصل العرب جميعاً.
لكن حين نُزيح غبار التقليد عن صفحات التاريخ، ونقرأ المصادر بعينٍ فاحصة، ندرك أن هذه المقولة لا تعدو كونها بناءً أدبيّاً واجتماعيّاً صاغه مؤرخون ونسّابون في عصور لاحقة، من دون أن يسندوه إلى دليلٍ أثريٍّ أو جغرافيٍّ واحد.
لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون هذا التقسيم الشائع بين قحطانيين وعدنانيين، فهذه الفكرة وُلدت في القرنين الثاني والثالث للهجرة، عندما بدأ النسّابون المسلمون في رسم خرائط النسب العربي بما يُرضي روح الفخر القبلي أكثر ما يعكس واقع التاريخ.
وأول من وضع اللبنات الأولى لهذا التصور هو محمد بن السائب الكلبي، (ت 204هـ) في كتابه «جمهرة النسب»، إذ قسّم العرب إلى «العاربة» (القحطانيين) من نسل قحطان ومساكنهم اليمن، و«المستعربة» (العدنانيين) من نسل إسماعيل بن إبراهيم ومواطنهم الحجاز.
ثم جاء بعده الهمداني (ت 334هـ) في «الإكليل وصفة جزيرة العرب»، فعمّق هذه الفكرة وجعلها أصلاً، فكتب أن قحطان هو أبو العرب العاربة، وأن اليمن مهد العرب جميعاً. غير أنّ الهمداني - وهو من أبناء همدان اليمنية - كان في كثير من مواضعه يعبّر عن فخرٍ محليٍّ وهويةٍ إقليميةٍ أكثر من توثيقٍ علميٍّ محايد.
ومع مرور الزمن، تبنّى مؤرخون مثل ابن حزم الأندلسي والقلقشندي هذه الرواية من دون تمحيص، حتى تحوّلت إلى مسلّمة أدبية تتكرر في كتب الأنساب والأدب، لا في دراسات التاريخ العلمي.
ولم تكن الغاية من هذا التصنيف بحثيةً بقدر ما كانت محاولةً لإعادة ترتيب النسب العربي في إطارٍ ثنائيٍّ: شمالي وعدناني مقابل جنوبي وقحطاني، في زمنٍ كانت العصبيات تُصاغ فيه بمداد الفخر أكثر مما تُكتب بمداد التحقيق.
أما الدراسات الحديثة - في علم الآثار والأنثروبولوجيا والجينات - فقد نقضت هذه الفرضية من جذورها.
فالأدلة اللغوية والنقوش القديمة (الثمودية، الصفائية، واللحيانية) تُظهر أن الوجود العربي الأصيل كان منتشراً في شمال الجزيرة ووسطها منذ قرونٍ قبل ممالك اليمن، كسبأ وحِمير ومعين.
كما تشير الأبحاث الحديثة إلى أن العرب لم ينحدروا من منطقة واحدة، بل تشكّلوا عبر أقاليم متعدّدة داخل الجزيرة العربية، في تفاعلٍ لغوي وثقافي طويل.
وتوضح الباحثة Marieke Brandt في دراستها Heroic History, Disruptive Genealogy أن الهمداني استخدم الأنساب «كخطابٍ هويّاتيٍّ» لتقوية فكرة الانتماء الجنوبي، لا كمصدرٍ علميٍّ يعتمد على النقوش والآثار.
وقد خالف هذا التصور عددٌ من الباحثين والمؤرخين العرب المعاصرين، مؤكدين أن مقولة «اليمن أصل العرب» لا تستند إلى دليلٍ علميٍّ قاطع.
فالدكتور علي الغبان، عالم الآثار السعودي ونائب رئيس هيئة السياحة والتراث الوطني سابقاً، صرّح بأنّ هذه المقولة «غير صحيحة، ولا أساس لها من الصحة»، موضحاً أن الجزيرة العربية كانت مأهولة بالبشر منذ أزمانٍ سحيقة قبل أيّ هجراتٍ مزعومة من الجنوب، وأن فكرة انحدار العرب جميعاً من اليمن إنما ظهرت في القرن الثاني الهجري مع تدوين الأنساب (موقع موطني 48، 24 ديسمبر 2024؛ وموقع صحيفة صدى، 24 ديسمبر 2024).
كما أشار المؤرخ أحمد الزيلّعي، أستاذ التاريخ والآثار بجامعة الملك سعود، في برنامج سجال على قناة العربية (20 يوليو 2024) إلى أن القول إن اليمن هو «أصل العروبة» طرحٌ جدليٌّ غير مدعومٍ بما يكفي من الأدلة الأثرية واللغوية، وأن العروبة تشكّلت في أقاليم متعدّدة داخل الجزيرة العربية.
وفي الاتجاه ذاته، نشر موقع «توبو بوست» الثقافي (23 يوليو 2022) مقالاً بعنوان «ما حقيقة اليمن أصل العرب»؟ يؤكد أن هذه الفكرة غير صحيحة علميّاً، وأن اللغات الجنوبية القديمة في اليمن تختلف عن العربية الأم التي تبلورت في شمال الجزيرة ووسطها، ما يُضعف فرضية الأصل الجنوبي المطلق.
إنّ اليمن مهدٌ لحضاراتٍ عربيةٍ عظيمةٍ، لا ريب في ذلك؛ فهي أرض سبأ وحِمير ومعين، ومواطن لغاتٍ ساميةٍ قديمةٍ تركت أثرها في الوجدان العربي.
لكن تحويل هذا المجد الحضاري إلى ادّعاءٍ بأن اليمن أصل جميع العرب، تَوسّعٌ لا تسنده شواهد.
فالحجاز ونجد وشمال الجزيرة وشرقها كانت بدورها مواطن لقبائل عربيةٍ خالصةٍ منذ أقدم العصور.
العربية لم تولد من رحم بقعةٍ واحدة، بل من تنوّع الجغرافيا والزمان والإنسان.
إنّ مقولة «اليمن أصل العرب» ليست حقيقةً تاريخية، بل هي انعكاس لِما دوّنه مؤرخون بدافع الفخر الإقليمي أكثر من السعي للبرهان.
فالتاريخ والآثار واللغة والجينات تقول بوضوح: العرب أبناء الجزيرة كلّها، لا أبناء الجنوب وحده.
وما نراه في تلك المقولة إلا صدى فخرٍ قديمٍ ظلّ يتردّد حتى خُيِّل للناس أنه حقيقة، بينما هو رأيٌ وُلد من الحماسة لا من الدليل.


