أصدر أمين معلوف أوائل هذا القرن عدداً من المؤلفات البديعة، على شكل دراسة، أو رواية، أو سيرة ذاتية، تتناول كلها الحالة البشرية في هشاشتها وعطوبها. ومن أشهر تلك الكتب «الهويات القاتلة» و«اختلال العالم». وينطلق فعل معلوف في هذه الرحلة الإنسانية المعقّدة من تجربته الشخصية كرجل من هويتين، العربية التي وُلد بها، والفرنسية التي وضعته بين أشهر أدباء العالم.
دائماً أعود إلى بعض أعمال أمين، وأحياناً غير مرة. أستعيد في نصوصه الجميلة ما مررنا به جميعاً من تجربة تاريخية، ولكن هو توقف عندها في عمق أشد ورؤية أوسع، وإذ يدقق في هويته، وبالتالي هوياتنا جميعاً، نقرأ في حالنا وحال هذا العالم، بالمزيد من الشفقة والخوف، ومعهما الكثير من اليأس.
الأمور تزداد سوءاً وتدهوراً. خذ مثالاً على ذلك، هذه اللوحة – للمقارنة – من الفصل الأول لكتاب «اختلال العالم»: (2009): دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة. لقد أخذت تقع منذ الأشهر الأولى أحداث مقلقة تحمل على الظن بأنَّ العالم يعاني «اختلالاً كبيراً، وفي عدة ميادين معاً – اختلالاً فكرياً، اختلالاً مالياً، اختلالاً مناخياً، اختلالاً جيوسياسياً، اختلالاً أخلاقياً».
في كل اختلال على حدة، ما بين 2009 و2025، الإنسان في وضع أكثر حرجاً وقلقاً. قف قليلاً عند «الاختلال المناخي»، أو «الاختلال السياسي»، أو «الاختلال المالي»، لقد بلغت جميعها مستويات مرعبة منذ 2009، كنا نظن أن «التغير المناخي» فزاعة يتسلَّى بها العلماء، في ساعات الضجر، فإذا به يدخل بيوتنا، ويرفع الحرارة في سهل البقاع إلى 46 درجة مثل الكويت.
ما الذي كان يقلق معلوف بداية القرن؟ «صعود التعصب، والعنف، والنبذ، واليأس». وبكل بساطة... إنه قلق عاشق للحياة، لا يقبل التسليم بالفناء الذي يتربص بها؛ إذ يخرج الكابتن الممتلئ بالخوف والأمل من أواخر القرن العشرين، يرى نفسه أشبه بناطور بستان. هو لا يملك هذا البستان، ولم يزرعه، ولم يسقِ أشجاره، لكنه يعيش سعيداً فيه هو وأصدقاؤه وجيرانه وأهله. ويتمنى أن تعم السعادة الجميع. غير أنه عالم مختل، بل شديد الاختلال، وهوياته قاتلة.