: آخر تحديث

السويداء مدينة منكوبة و"حبل الدمار على الجرار" إن لم نتعظ!؟

2
2
2

بعد أن انتهت جولة القتل الأخيرة في السويداء، لم تتوقف آثارها. ثلاثة أيام من الاشتباكات الثقيلة تركت خلفها مدينة تتنفس عبر الثقوب. لم تكن الجبهات عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، بل خطوط مواجهة غير متكافئة بين مدنيين مضطرين إلى الدفاع عن بيوتهم، وعناصر مسلحة موجهة بالقرار والذخيرة. إذ إنه منذ اللحظة التي استندت فيها السلطة المؤقتة إلى تشكيلات متشددة، اتضح أنَّ المدن التي تحتفظ بتكوين اجتماعي لا يدخل ضمن المنظومة المفروضة ستكون الهدف. ما جرى في السويداء ليس استثناء، بل استمرار لمنهج بدأ منذ سنوات. إسكات المدن لا يتم عبر الحوار، بل عبر القوَّة، وفرض نمط ديني ضيق في بيئة لا تتقاطع معه أصلًا.

في السويداء، كل نقطة دم بريئة سالت، سواء من سكانها أو من أي ضحية مدنية أخرى، يجب أن تكون سببًا في أوجاع السوريين، لا مجالًا لصمت أولئك الذين اختاروا التنظير للإرهاب، ثم تفاجأوا بما حصل، وكأن العنف ينتقي ضحاياه وفق قناعة سياسية أو طائفية، ولا هؤلاء الذين صفقوا لإسرائيل حين كانت تقصف مواقع سورية في زمن الأسد، وباتت الآن تستنكر قصفها مواقع حساسة في المرحلة الجديدة، ولسنا مع أي اعتداء سافر ضد بلدنا، إلا أنَّ مقومات الدولة يجب أن تتوافر. دولة لجميع السوريين، وما هو قائم الآن، وما يؤسس له ليس مشروع دولة البتة، بل مشروع تكية وثكنة باسم سوريا، وهو ما يدفع إلى تداعي هذا البلد، وتفككه، ما يؤكد ضرورة العود إلى نقطة الصفر، أن تكون هناك سلطة تشاركية حقيقية، يعود فيها أصحاب اللحى إلى الجوامع والكنائس، ويمارسوا شعائرهم بحرية دون المس بهم أو بأحد، إلا أن ترك الأسلحة في أيديهم فهي محاولات لتدمير هذا البلد العظيم، ناهيك عن أنه لابد من سماع الداخل لا الرضوخ لإملاءات الخارج، لا سيما تركيا وقطر اللتين أوصلتا البلد إلى هذا الواقع الأليم، قبل أن تدخل جهات أخرى على الخط، ويحاول كل منها تسيير أمور السوريين على هواه وأيديولوجيته.

مدينة السويداء اليوم جريحة تحت حصار خانق لا يمكن توصيفه إلا بجريمة منظمة. الكهرباء معدومة، المياه ملوّثة أو مسمّمة، الأدوية مفقودة، المستشفيات شبه مشلولة، وإمدادات الغذاء غير متوافرة. تم قطع الحوالات المالية، وأُغلقت المنافذ، بينما تُدار المعابر المحيطة بالمدينة بمنطق العقاب الجماعي. درعا لم تعد نافذة، بل سجنًا بعد أن أريد لها أن تكون مشروع مقبرة، لا سيما منذ أن فُرض عليها طوق أمني محكم. فقد تسرّبت وثائق تهديد من أسواق دمشق تُخوّن من يتعامل مع تجار السويداء. حتى تحويل الحليب للأطفال صار من عداد قائمة مستلزمات استكمال الحصار العام.

وسط هذه الظروف الأليمة، لم تظهر حتى الآن أية مبادرة رسمية لوقف النزيف. فلا يوجد إعلان طوارئ، لا لجنة أزمة، لا بيان مسؤول، بل صمت يكرّس الجريمة. إنما ما يُمكن، وما يجب، هو فتح ممر إنساني فوري. الأبواب السياسية مغلقة، لكن أبواب الإنقاذ يجب ألا تُغلق. من الضروري أن يُسمح لقوات سوريا الديمقراطية كجهة ثالثة بعيدة عن أدوات الحرب - بما تمتلكه من موارد لوجستية - بتسيير قوافل إغاثة غذائية وطبية إلى قلب المدينة المحاصَرة. ليس وقت الحسابات السياسية الآن، بل وقت حماية المدنيين.

تأسيسًا على ذلك، فإن أيّ محاولة لإخراج الناس من بيوتهم، تحت ذريعة الحرب أو الخطر، هي تهجير قسري مهما كان مسوغها. فلا يجوز إخراج أهل السويداء من بيوتهم، ولا دفع أبرياء البدو إلى مواجهات جانبية، ولا ترك مئة وخمسين ألفًا من سكان جرمانا وأشرفية صحنايا معلّقين في الفراغ، بلا طريق، ولا أمان. كل بيت يجب أن يبقى آمنًا لصاحبه، مهما تغيّرت خطوط السيطرة أو خرائط النزاع.

أمَّا سلطة دمشق، فبات عليها أن تخرج – على الفور – بعيدًا عن بروتوكولات الاستعلاء والهيبة الخادعة، من دوامة الإنكار. لأن ما جرى في السويداء، وفي غيرها، لا يمكن الرد عليه بالوعيد المعلن أو المخفي، أو عبر بيانات الاستنكار المعتادة. المطلوب ليس خطابًا، بل مراجعة شاملة. ليس من أجل تثبيت الكرسي، بل من أجل تثبيت البلاد. الأولوية الآن ليست في من يجلس على المنصة، بل في من بقي واقفًا تحت سقف مهتز، أو أمام مستودع فارغ، أو في طابور رغيف لا ينتهي.

إنما من الحوادث التي اختزلت المشهد كله، ما حدث للفنان ربيع نبيل البعيني. لم يكن مقاتلًا، ولم يكن خصمًا، بل صعد إلى سطح بنايته ليقدّم وجبة طعام لعناصر تمركزت هناك. لم يَطْرد، لم يُهِن، لم يَشْتُم. فقط حمل الطعام، وصعد. بعد دقائق، أُطلق عليه الرصاص، وسقط ميتًا فوق سطحه. لم ينجُ حتى كلبه. ليست القصة عن رجل قُتل، بل عن مناخ لا يحمي حتى من يتعامل بحدٍّ أدنى من الإنسانية. السلاح في هذه البلاد لم يعد يفرّق بين خطر ومبادرة، بين خصم وحياد.

من هنا، فإنه لا مجال بعد الآن لأي تسويغ. لا يمكن اعتبار ما جرى "مجرد أحداث" أو "تطورات ميدانية". إنها كارثة بشرية، لا تنتهي بإعلان وقف إطلاق نار، بل تبدأ بمحاسبة من فجّر، ومن سلّح، ومن حرّض، ومن صمت. فليس هناك طرف محايد حين يُقتل مدني على سطح بيته بعد أن قدّم الطعام لغيره.

وأخيرًا، فإنه لا بدَّ من التذكير أنَّ سوريا لا تحتاج إلى جبهات جديدة، بعد كل هذا النزيف والاستنزاف، بل إلى إعادة تأسيس كاملة. النظام، أي نظام كان في أية بقعة من العالم، عندما يستعين بالمليشيات ويُطلق يد المتشددين، فهو لا يبني دولة، بل يحفر حفرة أوسع تحت أقدام جميع مواطني بلده. بل يؤسس لمستنقع دموي. السلطة التي ترى في التنوع خطرًا، وفي الكرامة الشعبية تمرّدًا، ليست سلطة وطنية، بل جهاز ضبط مشروط.

البلاد ليست خرائط عسكرية، ولا مشاريع لجان، بل بشر ينتظرون شرط الكرامة ووسائل الحياة: المسكن، والملبس، والماء، والطعام، والكهرباء، ويبحثون عن الدواء، ويقفون أمام خزانات مياه قد تكون قاتلة. سوريا لا تُبنى بإعلانات النصر، بل بإغلاق أبواب الحرب، وفتح أبواب التفاهم. إن لم يتم تغيير الآليات، وإعادة ضبط كل الحسابات، فكل ما تبقّى ليس إلا مشهدًا متكررًا، بثمن أعلى، وعدد قتلى أكبر، ومستقبل أقصر. إنها رسالة أوجهها بكل ألم وحب!

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.